في الأدب الصوفي المغربي

خصائص الرؤيا وعلامات الجمال




محمد التهامي الحراق



الأدب الصوفي: دلالات المفهوم وحقول الدلالة
يحيلنا مفهومُ الأدب في تعالقه بالتصوف إلى دلالات ثلاث:

– المدلول الأخلاقي للأدب، ويفيد التهذيب والتعليم، وقد خصص له الصوفية أبوابا في تآليفهم تحت عنوان عام هو “آداب القوم”، ويعنون بها مجمل الأخلاق والمكارم والفضائل التي يتخلقون بها تحلّيا ويتحققون بها تجلّيا. وهذا المفهوم الخلقي للأدب مستمد من المرجعية الدينية كما يشير إليه الأثر النبوي “أدبني ربي فأحسن تأديبي”[1]؛

– المدلول الثاني هو مدلول ثقافي موسوعي رحب لـ “الأدب”؛ و يمثل هذا المدلولُ مفهوم الأدب بالمعنى الكلاسيكي في الثقافة العربية، ويضم تحت لوائه كل فنون القول؛ إذ “الأديب” بهذا المعنى يقتربُ مما نشير إليه وننعته في ثقافتنا الحديثة بـ”المثقف”، ومن ثم فاعتماد اصطلاح “الأدب” بهذا المفهوم يجعلنا ندرج في “الأدب الصوفي” مختلف ألوان الكتابة الصوفية المتميزة بأركانها الأربعة: الغرض المتحدث عنه، والمعجم التقني، وكيفية استعماله، والمقصدية (الصوفية) [2] ، بحيث يصبح “الأدب الصوفي” شاملا لمختلف الألوان النثرية الصوفية من مناقب، وكرامات، ورسائل، وحِكَم، وأدعية ، وأحزاب، وصلوات، وأذكار، ومناجيات، وموالد نثرية وشروح على متون شعرية ونثرية أكانت هذه الشروح موضوعة على متون صوفية أم شروحا تصويفية إشارية وضعت على متون غير صوفية كما سنرى لاحقا. كما يشمل الأدب الصوفي بهذا المعنى الرحب، الشعر الصوفي بمختلف تنويعاته من شعر تعليمي ورجز صوفي، ثم الشعر المنظوم في مختلف الأغراض الروحية سواء تعلقت بالجانب النبوي من مولديات وشمائليات ومعجزات وحجازيات وتصليات واستشفاعيات، أو تعلق بالجناب الإلهي من توسليات وغوثيات، أو ما يدخل في كلام القوم من حقائق من مديح ولوي أو سلوكي (محبة القوم)، ومحبة إلهية وخمريات صوفية و تغزلات الحقيقة وتوحيد خاص[3]. على أن الشعر الصوفي الغني بأغراضه وموضوعاته متعدد أيضا في أشكاله التعبيرية الشعرية، فمنه الفصيح العروضي، ومنه الموشح العروضي والموشح الحر، ومنه الزجل المنظوم اللهجات المحلية، و في معجم السماع الصوفي لأهل المغرب يُشارُ بالزجل، أساسا، إلى الشعر الصوفي المنظوم بالعامية الأندلسية و بالملحون إلى المنظوم بالعامية المغربية الصرف بغنى بحوره وقياساته.

– المدلول الثالث للأدب مدلول حديث يقصر دلالته على المُنتَج التخييلي الإبداعي، أكان نصا إبداعيا منثورا سرديا أم غير سردي (كالنص الشذري أو الحِكَمي) أم كان نصا شعريا عماده الإشارة والاستعارة والمجاز والرمز، حيث تنتعشُ لغة تؤسس خلقها الإبداعي على خرق مألوف اللغة الطبيعية وتوليد الدلالة والصور في أبعادها اللانهائية، والقابلة دوما لتجديد القراءة وتنسيل المعاني بشكل لا نهائي. على أننا نأخذ الخيال هنا في السياق الصوفي بوصفهِ أوسعَ حضرة للإدراك لا بوصفه مرادفا للكذب ومخالفا للحقيقة بما هي مطابقة للواقع[4].

إجمالا، وسواء انطلقنا في حديثنا عن الأدب الصوفي المغربي من المدلول الرحب لمفهوم “الأدب”، أو اعتمدنا مفهومه الحديث كإنتاج إبداعي تخييلي بالمعنى المشار إليه، فإن الإشاراتِ السابقة تدل على غنى الأدب الصوفي المغربي سواء من حيث المضامينُ أو الأشكال. ولما كانت الأشكالُ تستمدُ روحها العرفانية من طبيعة ما تحمله وتؤشر عليه من مضامين، سنحاول هنا الوقوف الوجيز عند هذه المضامين، والتي يمكن توزيعها إلى ثلاثة حقول دلالية كبرى: أ) مضامين خلقية تخليقية؛ ب) مضامين وجدية وجدانية؛ ج) مضامين روحية تسليكية.

أ- مضامين خلقية تخليقية: وتركز على الأبعاد الخُلقية والمكارم السلوكية في حياة المسلم من صدق، وإخلاص، وتواضع، وإيثار، وكرم، وتحاب وتكافل…إلخ، وغيرها من القيم الخُلقية التي تسمو بالفرد في علاقته بالجماعة. وهي قيم تحضر بقوة في نصوص الكرامات والوصايا والحكم والرسائل والأشعار الوعظية…؛

ب- مضامين وجدية وجدانية: وتتأسس على إبراز الدلالات الشعورية والوجدانية النبيلة والرقيقة الواسعة حيال كل تجليات التقديس في المنظومة الإسلامية، من حب للرسول وآله بيته ولصحابته، وتعلق بالبقاع المقدسة عبر الشوق والتشويق إليها، فضلا عن التغني الوجداني بكل ما يؤدي إلى تعميق هذا الارتباط القلبي والوجداني بالقيم الجمالية الإسلامية الرفيعة مجسَّدةً في تمجيد الطبيعة باعتبارها من بديع الخلق الإلهي، وتقدير الجمال باعتباره مظهرا من مظاهر الإحسان الذي كتبه الرحمن على كل شيء… وتحضر هذه المضامين بجلاء في بعض نصوص الصلوات والمناجيات والأحزاب، وكذا في الأشعار الصوفية كما هو الحال في أغراض النبويات مثل “الحجازيات”، على أن هذه المضامين تسمو بالمؤمن وتقوي شعوره الوجداني أي الديني في علاقته وبربه وبنفسه وبما يحيطه به من اجتماع وعمران وطبيعة وأكوان؛

ج– مضامين روحية تسليكية: وفيها يتبدى البعد العرفاني والذوقي للتجربة الصوفية بما هي تجربة روحية تروم الارتقاء بالسالك في معارج القرب في معرفة الحق سبحانه ومحبته. وهنا تعبر النصوص عن آثار عبور الصوفي لمختلف الأحوال والمقامات، وعن الثمار الجمالية لمذاقاته العرفانية، حيث تظهر هذه المضامين في صور جمالية رمزية تلبس المعجم الطبيعي أو الغزلي أو الخمري أو تعانق التوحيد الخاص بحيث تتوسل بلغة شطحية و رمزية لغوية تركيبية مجردة عن كل إحالة حسية للظاهر. وهنا يتضمن الأدب الصوفي مسارا خطابيا مخصوصا يرتهن تلقيه والتواصل معه بمخاطَبٍ متحققٍ بالمضامين الخُلقية التخليقية، و متشربٍ للمضامين الوجدية الوجدانية، فضلا عن استعداده الروحي بالرياضات والمجاهدات ومداومة الأذكار والأوراد وصحبة أهل النسبةِ لخوض التجربة الذوقية قصد التحقق ببعض معانيها وحقائقها التي تعاش وتذاق ولا تعقل أو تنقال. و خلال هذه المضامين تمتزج الإشارة إلى المذاقات الصوفية والانتشاء بها بتأهيل السالك وتعريفه علاماتِ الطريق ومسالك ورود تلك المذاقات والنهل منها، ويحضر هذا الامتزاج أساسا في بعض الأحزاب والمناجيات والصلوات، وكذا في الأشعار ذات النفس العرفاني العالي مثل الخمريات والغزليات الصوفية ونصوص التوحيد الخاص، والتي تمزج دوما بين التحقق والتذوق (التجربة الذاتية في السلوك) وبين التأهيل والتسليك (إعداد المريد والأخذ بيده في الطريق…).

لعل هذه المضامين الثلاثة تساوق وتوازي بوجه عام وإجمالي، مسار نشأة التصوف وتطوره بالمغرب حيث نجد –إذا اعتمدنا التقسيم الثلاثي السائد بين الباحثين – سيادة المضامين الخُلقية والتخليقية في المرحلة الأولى المسماة بـ”مرحلة الزهد”، وتمتد من الفتح الإسلامي إلى القرن الخامس الهجري، و هي مرحلة ركزت على الاقتداء والتخلق؛ فيما نسجل طغيان المضامين الوجدية الوجدانية في المرحلة الثانية المسماة بـ “مرحلة الظهور” خلال القرنين السادس و السابع الهجريين (وهي مرحلة الاستواء)، وخلال هذه المرحلة بدأ النفس العرفاني يزهر وينبجس وهو ما سيترسخ في المرحلة الثالثة؛ والمسماة في تاريخ التصوف المغربي بـ”مرحلة الطوائف والزوايا”، أو مرحلة الهيكلة والتنظيم والتي ابتدأت من القرن السابع الهجري، حيث ترسخت المضامين الروحية التسليكية، وهي تجمع بين التخليقية والوجدانية والعرفانية، و هو ما جعلَ الأدب الصوفي المغربي المنبثق عن هذه المرحلة- و التي يعد القرن الهجري السابع فيها قرنا مرجعيا- ينبصمُ بِبعضِ الخصائص الرؤيوية المميزة لهذا الأدب، و المستمدة معالمُها من التصنيف الإجرائي السالف لمضامينه.

من خصائص “الرؤيا” المميزة للأدب الصوفي المغربي
1.الجمع بين الروحي والسلوكي

لعل من أبرز ما يسمح ويشج الأدب الصوفي المغربي باستقراء تصوره وفحص مساراته أنه انتهى، بحكم تنوع روافده المحلية والشرقية والأندلسية وبحكم تفاعله مع سياقه العقدي والفقهي والسياسي والاجتماعي والتاريخي، إلى الجمع بين ما هو روحي عرفاني تمثله خصوصاً الأحزاب والأوراد والمناجيات وأشعار الحقائق والرقائق… إلخ، وبين ما هو سلوكي تخليقي تمثله نصوص الرسائل والوصايا والحِكَم والأشعار التي تحض على مكارم الخلاق وملازمة الشريعة، مع جمعِ الزاوية، بما هي مؤسسة روحية تربوية تأطيرية، بين مجاهدة النفس بالتنسك والرياضات الروحية وبين والمرابطة على الثغور لمجاهدة العدو الغازي، أكان ذا خلفية صليبية في العصر الوسيط أم خلفية استعمارية اقتصادية في العصر الحديث (أي الجمع بين الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر). وهذا الجمع بين العرفاني والأخلاقي، بين الروحي والسلوكي غاب عن كثير من الباحثين حين وصفوا التصوف المغربي بالعملي، وتناسوا بعده الروحي العرفاني، والذي كان يحيا بتواز بل وتكامل مع ذاك البعد العملي و يسهم في تعضيده وتقويته. فالزوايا التي أبلت البلاء الحسن في الجهاد والتربية الخلقية والعملية، تمتلك إرثا عرفانيا عالي النفس لم يُكشف عنه كاملا، ومازال خبيئا في الخزائن الخاصة والعامة (لنتأمل ما يصدر اليوم من التراث الروحي الدرقاوي أو الكتاني أو الصدِّيقِي أو الوزاني…). و يمكن التمثيل لذلك بمولاي عبد السلام بن مشيش صاحب “الصلاة المشيشية” ودوره الرائد في صد التنصير؛ أو تلميذهِ أبي الحسن الشاذلي صاحب الأحزاب الشاذلية الروحانية و مشاركته في صد الحروب الصليبية وهو ضرير؛ أو أبي الحسن الششتري صاحب الأشعار الصوفية عالية النفس في المعارف الحقائق الذوقية و حضه على صد الصليبيين… وفي العصر الحديث يمكن أن نستحضر الدور الجهادي الرائد للأمير عبد القادر الجزائري، وهو الدرقاوي صاحبُ المراسلات العديدة مع شيوخ هذه الطريقة في المغرب، و المؤلِّفُ لكتاب “المواقف الروحية” الذي سار فيه على نهج الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في “فتوحاته“. والذي يطلع مثلا على التراث الدرقاوي (رسائل سيدي علي الجمل؛ رسائل الشيخ محمد الحراق، كتابات سيدي أحمد بن عجيبة، رسائل سيدي الخضر الشجعي…)، يكشف عن هذا التزاوج الهائل في الأدب الصوفي بين ما هو روحي عرفاني و ما هو سلوكي عملي، بخلافِ بعض التنظيراتِ التي تطلقُ أحكاماً تفصل فصلا قاطعا بين البعدين، و هي أحكام تعوزها القرائن والنصوص، و تخلقُ تناقضاً متوَهَّما بين روحانيةِ تصوف الإشراقِ والعرفان والحقائق و سلوكيةِ تصوف التربية والعملِ والتخليق.

2- الجمع بين التطهير الروحي للفرد وبين التلحيم الروحي للمجتمع

لهذه الخاصية صلة بسابقتها؛ ذلك أن الجمعَ بين الروحي والسلوكي جعل هذا الأدب يَصدُرُ عن رؤية أصيلة بقدر ما تسهم في تأهيل الفرد روحيا وباطنيا للارتقاء في مراقي الصفاء ومدارج الإحسان من خلال الأوراد والصلوات والأذكار والمناجيات؛ بقدر ما تسهم في تحقيق التلحيم الروحي للمجتمع من خلال حضور نصوص هذا الأدب ومتونه في الفضاء العام للمجتمع من خلال تتويب وتهليل المهللين فوق المآذن ببعض تلك النصوص، أو من خلال حضورها بوصفها متونا أساسية في الكتاتيب القرآنية و المساجد وعند طقوس الجنائز وفي الأذكار خلال الأفراح والأتراح، مثلما هو الشأن مع متون صوفية سائرة في الوجدان والذاكرة المجتمعيين مثل “دلائل الخيرات” للإمام محمد بن سليمان الجزولي و”الناصرية” لمحمد بناصر الدرعي و”البردة” و”الهمزية” لشرف الدين البوصيري و”الفياشية” لعثمان بن يحيى الشرفي، وبعض نصوص إبراهيم التازي و “رباعيات” عبد الرحمن المجذوب و”توسليات” عبد القادر العلمي و”الموالد النثرية” وغيرها، حيث تحضر هذه المتون في الفضاء العام للمجتمع، في المزارات والبيوتات وفي الكتاتيب والمساجد وخلال كل المناسبات، مما جعلها تصبحُ مكونا عضويا في المشهد الديني المغربي، يسهم في تغذية الوجدان الديني، وينسج خصوصية اللحمة الروحية للهوية الإسلامية للشخصية المغربية، إذ يُتمثل ويُستَشهد بتلك النصوص في الأحاديث العامة؛ ويحفظها الخاص والعام.

على أن اعتناء المغاربة بالمولد النبوي الشريف، وتنافس الدول المتعاقبة على المغرب منذ المرابطين في إبراز مظاهر هذا الاحتفال[5]، قد ساهم بقوة في ترسيخ هذا البعد الاجتماعي والروحي للنصوص الأدبية الصوفية في مختلف مناحي الحياة الدينية للمجتمع المغربي، حيث حُبِّست أحباس وأنشئت أوقاف من أجل استدامةِ تلاوة تلك النصوص والمتون في المساجد والمزارات والبيوتات.

3- الجمع بين لغة التشريع ولغة التحقيق

هذه الخاصية الأساسية في الأدب الصوفي المغربي تعد رئيسة ومحورية، ومفادها أن أهل هذا الأدب لم يعبروا عن الحقيقة العرفانية في صرافتها كما هو شأن الحلاج أو السهروردي الشهيد أو ابن الفارض؛ وهم في عرف صوفية أهل المغرب محققون وأرباب ولاية وعرفان، ولم يزيغوا عن الشريعة في أذواقهم، لكنهم عبَّروا عن تلك الأذواق في صرافتها ونضارتها فأسيئ فهمهم، لذلك نجد صوفية أهل المغرب يجمعونَ بين لغة أهل التحقيق ولغة أهل التشريع، بل إنهم عمدوا إلى بعض تلك النصوص العرفانية التي أسيئ فهمها و وضعوا عليها شروحا تترجم معانيها العرفانية بلغة أهل التشريع. من هنا نفهم شروحهم على نونيةِ الششتَري[6] التي وصفها ابن الخطيب أنها “إحدى أمهات أقاويل أصحاب الوحدة المطلقة”[7] (شرحها أحمد زروق الفاسي و أحمد ابن عجيبة وعبد العزيز بن الصديق..)، وكذا شروحهم على قطعة “توضَّأْ بماءِ الغيبِ إن كنتَ ذا سِرِّ” المشهورة نسبتها للجُنيد، وشروحهم على “الصلاة الأكبرية” وغيرها. وفي هذا أكبر دليل على انتفاء التمييز بين التصوف السني والتصوف الإشراقي على أرض المعاني[8]؛ أي لدى أهل المعرفة الذوقية.

قيم فنية و علامات جمالية
أ)الإبداع بالحال

لعل من أهم ما يميز هذا الأدب أن كثيرا من نصوصه هي نصوص جمالية، بمعنى صدرت عن وجد وفتح، وليس عن تعمل وصناعة، أشير هنا تمثيلاً على المستوى المعرفي العرفاني إلى كتاب “الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ” الذي دونه تلميذه عبد الله بن المبارك؛ وعلى المستوى الأحزاب والأوراد لأحزاب أحمد بن عاشر الحداد الخمليشي الذي أبدع أحزابا في غاية الرونق والبهاء الأدبي والعرفاني، وهو رجل أمي على غرار عبد العزيز الدباغ؛ وعلى المستوى الشعري إلى “خمرية” محمد البوزيدي الذي أكد تلميذه أحمد بن عجيبة أن شيخه فاضت عنه المعاني فنظم قصيدة في الخمرة الصوفية الأزلية دون مراعاة صناعة الأشكال والأواني[9]، بل وحتى الصوفية الذين جمعوا بين العلم والذوق كانوا يؤكدون أن وضعهم للأحزاب والقصائد كان بإلهامٍ وتفضل وفتح إلهي ولم يكن بتعمل وكسب وصناعة. مما يطرح هنا مفهوما متجذرا لدى الصوفية عموما، هو مفهوم “الانكتاب” بدل “الكتابة”. وهذا الإبداع بالحال، هو ما أدى في كثير من الأحيان إلى إهمال هذا الأدب بذريعة كونه ليس أدبا؛ أي لا يخضع للمعايير والمقاييس النقدية المعمول بها في تحديد المفهوم المعياري للأدب في الثقافة العالمة السائدة.

ب) الاحتفاء بمحاورة النصوص

لعل أيضا من الخصائص الفنية للأدب الصوفي المغربي عنايته بمحاورة النصوص الصوفية الكبرى، إما من خلال شرحها ( أنظر مثلا شروح المغاربة الغزيرة على “الصلاة المشيشية” أو “الحِكَم العطائية” أو “تائية ابن الفارض” و”خمريته”، أو على “نونية الششتري” أو على “بردة” البوصيري و “همزيته”..)، أو من خلال معارضتها (نذكر في معارضة الحِكَم العطائية تمثيلا “حِكَم الشيخ الحراق”…)، أو معارضات المغاربة الشعرية “البردة” و”همزية” البوصيريتين[10]، أو معارضات كبار الصوفية لتائية ابن الفارض[11]، مثل تائيات محمد بن الكتاني و أحمد التجاني و محمد الحراق وغيرهم، وكذا تخميسهم وتشطيرهم وتسبيعهم لنصوص “البردة” و”الهمزية” و”الوتريات البغدادية” وتائية بن الفارض ونصوص غيره من مشاهير أعلام القوم في المشرق والأندلس.

أضف إلى ذلك شروحهم التصويفية لمتون نحوية مثل شروحهم الإشارية على متن “الآجرومية” في النحو، مثل شروح أحمد زروق الفاسي وعلي بن ميمون الإدريسي الغماري وأحمد بن عجيبة ومحمد بن عبد الكبير الكتاني..، وشرح أبي بكر بناني على ألفية ابن مالك المعنون بـ”تحفة الملوك والممالك في شرح ألفية بن مالك“، وشرح أحمد بن مصطفى المعروف بابن علوية المستغانمي على متن ابن عاشر في الفقه المعنون “المنح القدوسية في شرح نظم المرشد المعين بإشارة الصوفية“، وشرح المكي البيطاوري على سلم المنطق بعنوان “شرح خاتمة السلم للأخضري بطريق الإشارة“، وتشير بعض المصادر إلى وجود شرح إشاري مغربي على ديوان أبي الطيب المتنبي، وهي أمثلة ليس إلا.

ج) التلقي الجمالي الفني التطريبي للنصوص

عمد المغاربة من خلال اعتمادهم في تسليكهم الصوفي على “التربية بالطرب” إلى تلقي النصوص الصوفية تلقيا موسيقيا يحليها ببهي الألحان وزهي الترانيم المستمدة من المرجعية الفنية الموسيقية الأندلسية المغربية المتميزة طبوعا وإيقاعات وأساليب أداء؛ بحيث إن هذه النصوص ظلت دوما حية من خلال الإنشاد والتغني تحرك المواجيد وتطرب الأرواح وتستثير الأذواق. هكذا دخلت النصوص بتنوعها النثري والشعري، فصيحها وموشحها و ملحونها، سياق التغني الروحي ضمن ما يعرف بالسماع الصوفي، فرُنِّمت نصوص نثرية مثل “الصلاة المشيشية” و”أحزاب الإمام الشاذلي” و”دلائل الخيرات” للجزولي، ولُحِّنت النصوص الشعرية بمختلف بنياتها وأغراضها؛ سواء تلك المتعلقة بالمديح النبوي أو تلك المتصلة بكلام القوم (الشعر الصوفي). وقد ضمن هذا التلقي الفني امتدادا وجدانيا وتفاعليا لهذه النصوص في الأوساط الروحية، وكذا في الفضاءات العامة للمجتمع عبر انتعاش السماع في التقاليد الدينية للمجتمع المغربي، بل كان هذا التلقي الإنشادي عنصرا جماليا أعطى لتلك النصوص قيمة روحية وجمالية جعل منها عنصرا رئيسا في النسق الوجداني والروحي المغربي، و جعلها تضطلع بوظائف نفيسة في روحنة تدين المجتمع بما تحمله من إشاراتٍ ودلالات و أبعاد.

إن هذه القيم جميعها، و التي لم نشر منها إلا لما نعتبره محوريا، تحتاج إلى مزيد اكتشاف و استشفاف و دراسة؛ إذ من شأن ذلك أن يبرز أبعادا خفية و منسية في جمالية الأدب الصوفي المغربي، التي علينا أن نفيد منها في تنشئة أجيال مؤمنة بدينها و في جوهره الإنسانُ بمختلف القيم التي تفتح أفق تكريمه كونيا و أنطولوجيا في الأرض، و في مقدمتها قيم المحبة و الجمال التي يمتح منها و يصب فيها الأدب الصوفي بوجه عام، ومنه الأدب الصوفي المغربي بتوقيعاته الروحية و الجمالية المتفردة.


[2] – مفتاح، محمد: “دينامية النص“،، المركز الثقافي العربي، البيضاء 1987، ص.129-130.

2 – لمزيد تفصيل راجع: الدلائي، محمد بن العربي، “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار“، دراسة و تحقيق محمد التهامي الحراق، منشورات وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، الرباط، 2011م، قسم الدراسة: ج1/ ص290-361.

[4] – راجع مقالنا ” جدلية الحب الحسي و الحب الصوفي في التجربة العرفانية الأكبرية”، على موقع “طواسين”: http://tawaseen.com/?p=2359.

[5] – راجع دراستنا “إضاءات حول فرح المغاربة بالمصطفى صلى الله عليه و سلم“، ضمن كتاب جماعي: “لماذا نفرح بالمصطفى صلى الله عليه و سلم؟“، منشورات رابطة مجمع الصلاح بالمغرب، الرباط، 2012.

[6]– مطلعها:

أَرَى طَالِباً مِنَّا الزِّيَادَةَ لاَ الحُسْنَى X بِفِكْرٍ رَمَى سَهْماً فَعَدَّى بِهِ عَدْنَا

(“ديوان أبي الحسن الششتري“، تحقيق علي سامي النشار، منشأة المعارف، الاسكندرية، ط.1/1377هـ-1958م، ص.72-76).

[7]– ابن الخطيب، لسان الدين، “روضة التعريف بالحب الشريف“، تحقيق محمد الكتاني، دار الثقافة، البيضاء، 1990م، 2/604-605.

5 – لمزيد تفصيل بخصوص موقفنا من هذا التصنيف، انظر: “فتح الأنوار …“، م.س، قسم الدراسة: ج1/ ص372-386.

8 – ابن عجيبة، أحمد، “شرح تائية البوزيدي في الخمرة الأزلية”، تحقيق الثابت بنسليمان عبد الباري، دار الرشاد، الدار البيضاء، ط.1/1418هـ-1998م، ص5.

9 – راجع مبحث “البردة و الهمزية في التقاليد السماعية المغربية”، ضمن كتابنا ““موسيقى المواجيد، مقاربات في فن السماع المغربي”، منشورات الزمن، الرباط 2010م.

9 – راجع في أدب التائيات على سبيل المثال: الكيالي، عاصم إبراهيم، “الحقائق الإلهية في تائيات الصوفية (عشرون تائية صوفية من أنوار الطريقة وأسرار الحقيقة)” ، بيروت،2007.


طواسين