|
بتاريخ : 17-09-2012 الساعة : 08:56 PM
رقم
#5
كاتب الموضوع :
الشيخ درويش عبود المغربى
|
شيخ الطريقة التجانية العلية
|
(1/150)
عدن: وهي مدينة لطيفة، وإنما اشتهر اسمها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين وإليها تجلب بضائع هذه الأقاليم من الحرير والسيوف، والكيمخت والمسك والعود والسروج، والأمتعة والأهليجات والحرارات والعطريات، والطيب والعاج والأبنوس، والحلل والثياب المتخذة من الحشيش الذي يفخر على الحرير والديباج والقصدير، والرصاص واللؤلؤ والحجارة المثمنة والزباد والعنبر، إلى ما لا نهاية لذكره. ويحيط بها من شمالها جبل دائر من البحر إلى البحر، وفي طرفيه بابان يدخل منهما ويخرج، وبينهما وبين اليابس مدينة الزنج مسيرة أربعة أيام.
تهامة: وهي قطعة من اليمن بين الحجاز واليمن، وهي جبال مشتبكة، حدها من الغرب بحر القلزم، ومن الشرق جبال متصلة، وكذا من الجنوب الشمالي وبأرض تهامة قبائل العرب. ومن مدنها المشهورة هجر.
أرض حضرموت: وهي شرقي اليمن وهي بلاد أصحاب الرس وكانت لهم مدينة اسمها الرس سميت بأسم نهرها. ومن أرض حضرموت المشهورة سبأ
(1/151)
التي ذكرها الله تعالى في القرآن وكانت مدينة عظيمة؛ وكان بها طوائف من أهل اليمن. وعمان تسمى مدينة مأرب، وهو اسم ملك البلاد وبهذه المدينة كان السد الذي أرسل الله إليه سيل العرم.
وكان من حديثه أن أمرأة كاهنة رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه؛ فأخبرت زوجها بذلك وكان يسمى عمراً، فذهب إلى سد مأرب فوجد الجرذ وهو الفأر يقلب برجليه حجراً لا يقلبه خمسون رجلاً؛ فراعه ما رأى وعلم أنه لا بد من كارثة تنزل بتلك الأرض، فرجع وباع جميع ما كان له بأرض مأرب وخرج هو وأهله وولده. فأرسل الله تعالى الجرذ على أهل السد الذي يحول بينهم وبين الماء فأغرقهم، وهو سيل العرم، فهدم السد وخرج أهل تلك الأرض فأغرقها كلها.
وهذا السد بناه لقمان الأكبر بن عاد، بناه بالصخر والرصاص، فرسخاً في فرسخ، ليحول بينهم وبين الماء وجعل فيه أبواباً ليأخذوا من مائه بقدر ما يحتاجون إليه. وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن مسيرة ستة أشهر متصلة العمائر والبساتين، وكانوا يقتبسون النار بعضهم من بعض، وإذا أرادت المرأة الثمار وضعت على رأسها مكتلها وخرجت تمشي بين تلك الأشجار وهي تغزل، فما ترجع إلا والمكتل ملآن من الثمار التي بخاطرها، من غير أن تمس شيئاً بيدها البتة.
(1/152)
وكانت أرضهم خالية من الهوام والحشرات وغيرها فلا توجد فيها حية ولا عقرب ولا بعوض ولا ذباب ولا قمل ولا براغيث. وإذا دخل الغريب في أرضهم وفي ثيابه شيء من القمل أو البراغيث هلك من الوقت والحين وذهب ما كان في ثيابه من ذلك بقدرة القادر.
وأذهب الله تعالى جميع ما كانوا فيه من النعيم الذي ذكره في كتابه ولم يبق بأرضهم إلا الخمظ والأثل وهو الطرفاء والأراك وشيء من سدر قليل وقد قال الله تعالى: " وبدّلناهم بجَنَّتَيْهِمْ جنتين ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ " الآية وذلك بأنهم كفروا بنعمة الله تعالى وجحدوها فنزل بهم ما نزل من العذاب، قال الله جل ذكره " ذلك جزَيْناهم بما كفروا وهل نُجازي إلا الكفور ". وسبأ الآن خراب وكان بها قصر سليمان بن داود عليهما السلام، وقصر بلقيس زوجته، وهي ملكة تلك الأرض التي تزوجها سليمان، وقصتها مشهورة، وبأرضها جبل منيع صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا بالجهد العظيم، وفي أعلاه قرى كثيرة عامرة وبساتين وفواكه
(1/153)
ونخل مثمر وخصب كثير، وبهذا الجبل أحجار العقيق وأحجار الحمشت وأحجار الجزع وهي مغشاة بأغشية ترابية لا يعرفها إلا طالبها والعارف بها، ولهم في معرفتها علامات فتصقل فيظهر حسنها.
الأحقاف: هي التلال من الرمل التي بين حضرموت وعمان، وهي قرى متفرقة. وروي عن عبد الله بن قلابة رضي الله عنه أنه خرج في طلب ابل له شردت فبينما هو في صحارى بلاد اليمن وأرض سبأ إذ وقع على مدينة عظيمة بوسطها حصن عظيم، وحوله قصور شاهقة في الجو، فلما دنا منها ظن أن بها سكاناً أو أناساً يسألهم عن إبله، فإذا هي قفر ليس بها أنيس ولا جليس، قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها ثم استللت سيفي ودخلت المدينة ودنوت من الحصن، فإذا ببابين عظيمين لم ير في الدنيا مثلهما في العظم والارتفاع، وفيهما نجوم مرصعة من ياقوت أبيض وأصفر يضيء بها ما بين الحصن والمدينة، فلما رأيت ذلك تعجبت منه وتعاظمني الأمر فدخلت الحصن وأنا مرعوب ذاهب اللب، وإذا الحصن كمدينة في السعة، وبه قصور شاهقة وكل قصر منها معقود على عمد من زبرجد وياقوت، وفوق كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف أيضاً وكلها مبنية بالذهب والفضة مرصعة باليواقيت الملونة والزبرجد واللؤلؤ، ومصاريع تلك القصور كمصاريع
(1/154)
الحصن في الحسن والترصيع. وقد فرشت أراضيها باللؤلؤ الكبار وبنادق المسك والعنبر والزعفران. فلما عاينت ما عاينت من ذلك ولم أر مخلوقاً كدت أن أصعق فنظرت من أعالي الغرف فإذا بأشجار على حافات أنهار تخرق أزقتها وشوارعها، منها ما أثمرت ومنها ما لم تثمر، وحافات الأنهار مبنية بلبن من فضة وذهب. فقلت: لا شك أن هذه الجنة الموعود بها في الآخرة، فحملت من تلك البنادق واللؤلؤ ما أمكن وعدت إلى بلادي وأعلمت الناس بذلك.
فبلغ الخبر معاوية بن أبي سفيان وهو الخليفة يومئذ بالشام فكتب إلى عامله بصنعاء أن يجهزني إليه فوفدت عليه فاستخبرني عما سمع من أمري فأخبرته فأنكر معاوية إخباري فدفعت له من ذلك اللؤلؤ وقد اصفر وتغير، وكذلك بنادق العنبر والزعفران والمسك، ففتحها فإذا فيها بعض رائحة، فبعث معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأخبار فلما حضر قال له: يا كعب إني دعوتك لأمر أنا من تحقيقه على قلق ورجوت أن يكون علمه عندك. فقال: ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال معاوية: هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية من ذهب وفضة عمدها من زبرجد وياقوت وحصباؤها لؤلؤ وبنادق مسك وعنبر وزعفران؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، بناها شداد بن عاد الأكبر.
(1/155)
قال معاوية: حدثنا من حديثها، قال كعب: إن عاداً الأول كان له ولدان شديد وشداد، فلما هلك ملكا بعده البلاد، ولم يبق أحد من ملوك الأرض إلا دخل في طاعتهما. فمات شديد بن عاد، فملك شداد الملك بعده على الانفراد، وكان مولعاً بقراءة الكتب القديمة، وكلما مر به ذكر الجنة وما فيها من القصور والأشجار والثمار، وغيرها مما في الجنة، دعته نفسه أن يبني مثلها في الدنيا عتواً على الله عز وجل فأصر على ابتنائها، ووضع مائة ملك تحت يد كل ملك ألف قهرمان. ثم قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فابنوا لي مدينة من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت ولؤلؤ، واجعلوا تحت عقود تلك المدينة أعمدة من زبرجد وأعاليها قصوراً وفوق القصور غرفاً مبنية من الذهب والفضة، واغرسوا تحت تلك القصور في أزقتها وشوارعها أصناف الأشجار المختلفة والثمار وأجروا تحتها الأنهار في قنوات من الذهب والفضة النضار، فإني أسمع في الكتب القديمة والأسفار صفة الجنة في الآخرة والعقبى وأنا أحب أن أجعل لي مثلها في الدنيا. فقالوا بأجمعهم: كيف نقدر على ما وصفت؟ وكيف لنا بالزبرجد والياقوت الذي ذكرت؟ فقال لهم، ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلها لي وبيدي وكل من فيها طوع أمري؟ قالوا: نعم، نعلم ذلك، قال: فانطلقوا إلى معادن الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والفضة والذهب فاستخرجوها واحتفروا ما بها ولا تبقوا مجهوداً في ذلك، ومع ذلك فخذوا ما في أيدي العالم من أصناف ذلك ولا تبقوا ولا تذروا واحذروا وأنذروا.
(1/156)
وكتب كتبه إلى كل ملك في الدنيا وجهاتها وأقطارها يأمرهم فيها أن يجمعوا ما في بلادهم من أصناف ما ذكر، وأن يحتفروا معادنها ويستخرجوها من التراب والصخور والمعادن والأحجار وقعور البحار، فجمعوا ذلك في عشر سنين وكان عدد الملوك المبتلين بجمع ذلك ثلثمائة وستين ملكاً وخرج المهندسون والفعلة والحكماء والصناع من سائر البلاد والبقاع والبراري، وتبددوا في البراري والقفار والجهات والأقطار حتى وقفوا على صحراء عظيمة فيحاء نقية خالية من الآكام والجبال والأودية والتلال، وإذا بها عيون مطردة وأنهار متجعدة، فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمرنا بها ونبذنا إليها. فاختطوا بفنائها بقدر ما أمرهم به شداد ملك الأرض من الطول والعرض، وأجروا فيها قنوات الأنهار ووضعوا أساسات على المقدار، وأرسلت إليهم ملوك الأقطار بالجواهر والأحجار واللؤلؤ الكبار والعقيان النضار على الجمال في البراري والقفار وفي البحر أوسقوا بها السفن الكبار ووصل إليها من تلك الأصناف ما لا يوصف ولا يعد ولا يحصى ولا يكيف.
فأقاموا في عمل ذلك ثلثمائة سنة جداً من غير تعطيل أبداً؛ وكان شداد قد عمر في العمر تسعمائة سنة. فلما فرغوا من عمل ذلك أتوه وأخبروه بالإتمام، فقال لهم شداد انطلقوا فاجعلوا عليها حصناً منيعاً شاهقاً رفيعاً واجعلوا حول الحصن قصوراً، عند كل قصر ألف غلام ليكون في كل قصر منها وزير من وزرائي.
فمضوا وفعلوا ذلك في عشر سنين ثم حضروا بين يدي شداد وأخبروه بحصول القصد والمراد فأمر وزراءه وهم ألف وزير، وأمر خاصته ومن يثق بهم من
(1/157)
الجنود وغيرهم، أن يستعدوا للرحلة ويتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد تحت ركاب ملك الدنيا شداد، وأمر من أراد من نسائه وحرمه وجواريه وخدمه أن يأخذوا في الجهاد. فأقاموا في أخذ الأهبة لذلك عشرين سنة. ثم سار شداد بمن معه من الأحشاد مسروراً ببلوغ المراد حتى إذا بقي بينه وبين إرم ذات العماد مرحلة واحدة أرسل الله عليه وعلى من معه من الأمة الكافرة الجاحدة صيحةً من سماء قدرته، فأهلكتهم جميعاً بسوط عظمته وسطوته. ولم يدخل شداد ومن معه إليها ولا رأوها ولا أشرفوا عليها. ومحا الله آثار طرقها ومحجتها، فهي مكانها حتى الساعة على هيئتها.
فتعجب معاوية من إخبار كعب بهذا الخبر، وقال: هل يصل إلى تلك المدينة أحد من البشر؟ فقال: نعم، رجل من أصحاب محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو بصفة هذا الرجل الجالس بلا شك ولا إبهام.
وروى الشعبي عن علماء حمير من اليمن أنه لما هلك شداد ومن معه من الصيحة، ملك بعده ابنه شداد الأصغر، وكان أبوه شداد الأكبر استخلفه على ملكه بأرض حضرموت وسبأ، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر فحفرت له حفيرة في مفازة فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب، وكتب فيه هذا الشعر:
اعتبر بي أيها المغ ... رور بالعمر المديد
(1/158)
أنا شدّاد بن عاد ... صاحب الحصن العميد
وأخو القوّة والقد ... رة والملك الحشيد
دان أهل الأرض لي من ... خوف قهري ووعيدي
وملكت الشرق والغر ... ب بسلطانٍ شديد
وبفضل الملك والعدّ ... ة أيضاً والعديد
فأتى هودٌ وكنّا ... في ضلال قبل هود
فدعانا لو قبلنا ... منه للأمر السديد
فعصيناه ونادينا ... ألا هل من محيد
فأتتنا صيحة تد ... وي من الأفق البعيد
فترامينا كزرعٍ ... وسط بيداء حصيد
قال الثعلبي: ولقد وقع على هذه المفازة أيضاً رجل من حضرموت يقال له بسطام، ومعه رجل آخر ذكراً أنهما دخلا هذه المفازة فوجدا في صدرها درجاً فنزلا فيه فإذا هي مقدار مائة درجة، كل درجة قامة، وأسفلها أزج معقود في الجبل طوله مائة ذراع وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه مائة ذراع، وفي صدر الأزج سرير من ذهب وعليه رجل عظيم الجسد قد أخذ طول السرير وعرضه، وعليه الحلى والحلل المنسوجة بقضبان الذهب والفضة، وعلى رأسه لوح من ذهب وعليه كتابة فأخذا ذلك اللوح وحملا ما أطاقا من قضبان الذهب ونظرا إلى طاقة في أسفل الأزج يدخل منها ضوء، فقصداها وخرجا منها فإذا هما على ساحل البحر، فقعدا هناك إلى أن عبر بهما مركب فأشارا إليه ولوحا لأهله، فأتوا إليهما وسألوهما عن أمرهما فأخبرا بالحال، فحملوهما حتى قربوا من أرضهما، فوصلا وأخبرا بما اتفق لهما فتعجبوا منه.
(1/159)
عمان: وأرضها مجاورة لأرض الشمال، وهي أرض عامرة كثيرة الخلائق والبساتين والفواكه، إلا أنها بلاد حارة جداً. وببلاد عمان حية تسمى العربد، وتسمى الكرام، تنفخ ولا تؤذي، فإذا أُخذت وجعلت في إناء وثيق، وأُوثقت رأس ذلك الإناء وسد سداً محكماً، ووضعت في إناء آخر ثان، وأخرجت من بلاد عمان، عدمت من الإناء ولا توجد فيه ولا يعرف كيف ذهبت. وهذا من أعجب العجب. وبهذه الأرض دويبه صغيرة تسمى القراد، إذا عضت الإنسان انتفخ مكانها ودود، ولا يزال الدود يسعى في باطن الإنسان المعضوض حتى يموت. وبجبال أرض عمان قرود كثيرة تضر بأهلها ضرراً كثيراً وربما لا تندفع في بعض الأوقات إلا بالسلاح والعدد الكثيرة لكثرتها؛ وفي أرض عمان مغاص اللؤلؤ الجيد؛ وفي بحر عمان جزيرة قيس طولها اثنا عشر ميلاً في مثلها. وصاحب هذه الجزيرة تصل مراكبه إلى بلاد الهند ويغزوهم في غالب الأوقات ويغير على كفار الهند.
ويحكى أن عنده في الجزيرة المذكورة على مرسى البحر من المراكب التي تسمى السفينات مائتي مركب، وهذه المراكب من عجائب الدنيا وليس على وجه الأرض ومتن البحور مثلها أبداً؛ وهي أن المركب الواحد منها منحوت من خشبة واحدة؛ قطعة واحدة، والمركب الواحد منها يسع مائة رجل وخمسين، وبهذه الجزيرة دواب ومواشي وأشجار وفواكه.
(1/160)
اليمامة: هي بلاد طسم وجديس، وهي بلاد الزرقاء المعروفة بزرقاء اليمامة وأخبارها مشهورة منها: أن طسما وجديسا كانا ابني عم وهم العرب العاربة. وكان الملك في طسم اسمه عمليق، وكان جباراً ظالماً طاغياً، بلغ من طغيانه وتجبره أنه ألزم جديسا أن لا تزف بكر من بناتها إلى بعلها حتى يأتوا بها ليلاً أو نهاراً ووقت زفافها إلى عمليق حتى يفترعها ويأخذ بكارتها ثم يمضوا بها إلى زوجها العريس، وفي صبيحة زفافها يعملون وليمة لعمليق ولأصحابه من طسم. فمكث زماناً على هذا الحال وكان من أكابر جديس رجل يقال له الأسود، وله أخت حسناء مبدعة تدعى سعاد وكانت بكراً، فزوجت برجل من أولاد عمها: فلما حضرت ليلة زفافها ذهبوا بها إلى عمليق فافترعها على العادة ثم خرجت من عنده ودمها ظاهر على أثوابها؛ فنظرت فإذا أكابر جديس وأعيان قومها وأخوها الأسود جلوس في ناحية
(1/161)
من الحي يتشاورون في أمر الوليمة للملك في صبيحة تلك الليلة؛ فما أحسوا بها إلا وهي في وسطهم ثم مزقت أثوابها من طوقها إلى أذيالها وكشفت عن بطنها وفرجها، وأظهرت دمها ونظرت يميناً وشمالاً وقالت:
لا أحدٌ أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا قوم بعلٌ حرّ ... من بعد ما ساق وسيق المهر
يقبضه الموت إذاً بنفسه ... حتفا ولا يصنع ذا بعرسه
فقام الأسود أخوها ورمى بثوبه عليها وسترها وبكى وأمر بردها إلى بيتها، فلم تفعل، وقالت وهي تحرض على قتل عمليق والقوم يسمعون:
أترضون ما يعزى إلى فتياتكم ... وأنتم رجال فيكم عدد النّمل
وتمشي سعاد في الدماء غريقة ... جهاراً وقد زفّت عروساً إلى بعل
فلو أننا كنا رجالاً وكنتم ... نساءً لكنا لا نقرّ بذا الفعل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساءً لا تعدّمن الفحل
ودونكم طيب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللذل
فبعداً وسحقاً للذي ليس ينتخي ... ويختال يمشي بيننا مشية الرجل
قال فأخرجوها من بينهم ودبت في رؤوس القوم خمرة النخوة والمروءة فقاموا جميعاً إلى مكان آخر، فابتدأ الأسود أخو سعاد وقال: يا إخوتاه ويا بني عماه، قد رأيتم ماذا يصنع ببناتكم وقد اتفق لأختي ما اتفق لمن تقدمها فما الرأي؟ قالوا: ما ترى، فقال الأسود لو اجتمع رأيكم على واحد من بينكم وليتموه أمركم لا نكشف عنكم العار وانتصفتم من الأغيار، قالوا جميعاً: أنت ذلك الواحد فلا مخالف ولا معاند، وتحالفوا، فقال ائتوني بالغنم والبقر والإبل وانحروا وأكثروا من الذبح
(1/162)
وأوقدوا النيران وعلقوا القدور وأشغلوا النساء بالطبخ ثم ائتوني بسيوفكم تحت ثيابكم. ففعلوا فمضى بهم إلى المكان المعروف بالضيافة وكل أراضيهم رمال.
وكان من عادة عمليق أن كل بكر يفترعها يقف وليها خلف ظهره وهو جالس على السماط في مكان الضيافة لتعلم طسم كلها من هو ولي العروس وتتحققه مبالغة في إهانته.
قال: فدفن الأسود سيفه في الرمل خلف مجلس عمليق وقال لقومه من جديس هكذا فافعلوا، فإذا جلس الملك وقفت خلفه وسيفي تحت قدمي، فإذا اشتغل بالأكل وأخذت سيفي وضربت عنق عمليق يفعل كل منكم بمن هو فوق رأسه كما فعلت، فلا يفلت أحد من القوم. فقالوا. سمعاً وطاعة.
فأصبح عمليق سكران، وكذا أعيان قومه وأنى إلى مكان الضيافة في أعظم زينة وهم مسرورون منشرحون. فلما أخذوا مجالسهم قدموا الضيافة فرأى عمليق ما لم يره من كثرة الضيافة، فشكر الأسود وبش له. فقال واحد من قوم عمليق حين مد يده إلى الأكل: رب أكلة تمنع أكلات. فما استتم كلامه حتى قتل عمليق، وكل من كان معه جالساً على الأكل وحضر الضيافة، قتلةً واحدة وامتلأت الجفان والمناسف بدماء القتلى. وقد قيل: إنه قتل في تلك الساعة من طسم ما يزيد عن ثمانين ألفاً، وما بقي من طسم رجل إلا من غاب عن الوليمة. ووضعت جديس سيوفها فيمن بقي من الرجال ونهبت وسبت وفتكت في طسم فتكاً ذريعاً وهربت شرذمة من طسم إلى حسان بن تبع ملك حمير باليمن فاستغاثت به فأغاثها.
وتوجه حسان بعساكره
(1/163)
قاصداً لجديس وإعانةً لطسم، وكانت امرأة اسمها الزرقاء التي تقدم ذكرها تنظر الراكب مسيرة ثلاثة أميال. فلما كان حسان في أثناء الطريق وهو سائر بعساكره قال رجل من طسم لحسان: أيها الملك أدام الله سعدك إن امرأة من جديس اسمها الزرقاء تنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أميال فربما تنظر عساكر الملك وتخبر قومها بذلك فيكيدوا لك كيداً عظيماً. فقال حسان: وما الرأي عندك؟ فقال: الرأي أن تقطع الأشجار فيأخذ كل راكب أمامه شجرة، فإذا رأت الزرقاء تقول لقومها: إن أشجاراً تسير إليكم على الخيل والنجائب فيكذبونها ويهملون أمرها، فتصبحهم وتبلغ الغرض.
فاقتلعوا الأشجار وحمل كل واحد أمامه شجرة وساقوا سوقاً حثيثاً فرأتهم الزرقاء فقالت لقومها: إني لأرى الشجر يسير إليكم سيراً سريعاً، وإني لأرى رجلاً من وراء شجرة يخصف نعلاً وآخر يشرب ماء وآخر ينهش كتفاً. فكذبوها فصبحهم حسان بعساكره وجموعه فأبادهم قتلاً وسبياً. وهرب الأسود فنزل على طيئ فأجاروه، وجيء بزرقاء اليمامة إلى حسان فأمر ينزع عينيها فإذا فيهما عروق سود مملوءة من الأثمد الجيد الخالص.
(1/164)
وأما السند: فهو إقليم عظيم مجاور للبحرين غربي الهند، وهو قسمان، قسم على جانب البحر. ويقال لتلك البلاد بلاد اللان، والمسلمون غالبون على هذا القسم. ومن مدنه المشهورة المنصورة وهي مدينة طولها ميل في ميل، وبها خلق كثير وتجار كثيرون والأرزاق بها دارة ووزن درهمهم خمسة دراهم وليس بها إلا النخل والقصب وتفاح شديد الحموضة. وهي مدينة حارة جداً وسميت هذه المدينة بالمنصورة لأن أبا جعفر المنصور الخليفة من بني العباس بنى أربع مدن على
(1/165)
أربع طوالع يقال إنهم لا يخربون أبداً إلا بخراب الدنيا إحداهن المنصورة هذه، وبغداد بالعراق، والمصيصة على بحر الشام، والرافقة بأرض الجزيرة.
والموليان: ويقال لها المليان وهي مجاورة لبلاد الهند وهي على قدر المنصورة وتسمى فرح بيت الذهب لأن محمد بن يوسف الحجاج وجد بها في بيت واحد أربعين بهاراً من الذهب، والبهار ثلثمائة وثلاثون مناً. وبها صنم كبير تعظمه أهل الهند والسند ومن في أراضيهم، ويحجون إليه ويتصدقون عليه بأموال جمة وحلي وجواهر وله خدم. ويزعمون أن لهذا الصنم مائتي ألف سنة يعبد، وعيناه جوهرتان لا قيمة لهما، وعلى بابه إكليل من ذهب مرصع بأنواع الجواهر الفاخرة.
أرض الهند: أرض واسعة عظيمة في البر والبحر والجنوب والشمال، وملكهم يتصل بملك الزنج في البحر وهي مملكة المهراج، ومن عادة أهل الهند أنهم
(1/166)
لا يملكون عليهم ملكاً حتى يبلغ أربعين سنة، ولا يكاد الملك عندهم يظهر للناس أبداً إلا نادراً في السنة.
وللهند ممالك كثيرة، فمنها مملكة المناكير واللادوت، ومملكة الفتوح، وهي مملكة عظيمة واسعة، ولأهلها أصنام يتوارثونها خلفاً عن سلف، ويزعمون أن لها مائتي ألف سنة تعبد، وملكها عظيم الملك كثير الجنود كثير الفيلة، وليس عند ملك من ملوك الأرض ما عنده من الفيلة، ويقال إن على مربطه ألف فيل، منها مائة فيل بيض كالقرطاس، ومنها ما ارتفاعه خمسة وعشرون شبراً. وقيل مات له فيل فوزن نابه الواحد فكان أربعين مناً.
ومن ممالك الهند مملكة قمار: وهي مملكة عظيمة واسعة، وإليها ينسب العود القماري. ومنها مملكة صيمور: ولها ممالك غير ما ذكر نحو اثنتي عشرة مملكة.
تمت الجهة الجنوبية ولنشرع الآن إن شاء الله تعالى في ذكر الجهة الشمالية وبلادها من المشرق إلى المغرب.
فأول بلاد هذه الجهة من المغرب الأقصى أرض الفرنج: وهي أمم عظيمة كثيرة لا تحصى، وهم غالبون على معظم جزائر الأندلس، ولهم في بحر الروم جزائر عظيمة
(1/167)
مشهورة مثل جزيرة صقلية وقبرص وجزيرة أقريطش وجزيرة كشميلي وجزيرة الخضراء وعدة جزائر، وغيرها.
فأما صقلية: فهي فريدة الزمان وأجمع المسافرون على تفضيلها وحسنها وعظم ملوكها وضخامة دولها. وفي هذه الجزيرة مائة وثلاثون مدينة أمهات قواعد خارجة عن القرى والضياع والرساتيق. فمن مدنها المشهورة يلزم وهي مدينتها العظمى وكرسي السلاطين وموطن الجيوش، وهي على ساحل البحر من الجانب الغربي وهي مدينة حسنة المباني بديعة الإتقان، وهي على قسمين قصور وربض، وهي على ثلاث قصبات: فالقصبة الوسطى تشتمل على قصور رفيعة ومنازل شامخة ومعابد وفنادق وحمامات، والقصبتان الأخريان قصور سامية وأبنية عالية وأسواق، وبها الجامع الأعظم الذي فيه من بدائع الصنعة المتقنة ومن أصناف التصاوير وأنواع التزاويق ما يعجز عن وصفه كل لسان، وليس بعد جامع قرطبة أحسن منه.
وأما الربض: فهو مدينة أخرى محدقة بالمدينة من جميع جهاتها. وبه المدينة القديمة المسماة بالخاصة التي كانت سكنى السلطان. والمياه بجميع جهات صقلية مخترقة والعيون بها متدفقة، وبها بساتين وجنات وفرج ومتنزهات وخارج الربض نهر عباس، وهو نهر عظيم وعليه أرحية كثيرة. ومن مدنها مدينة مسينا وهي مدينة عظيمة وبجبلها معدن عظيم للحديد يحمل منه إلى سائر البلاد.
ومنها أرض
(1/168)
طبرمين: وهي مدينة عظيمة ذات قصور منارة؛ وبساتين وفواكه، وبها جبل يسمى بطور الآيات. وبها معدن الذهب.
ومنها سر قوسة: وهي مدينة عظيمة يقصدها التجار من سائر الأقطار، والبحر محدق بها من جميع جهاتها. والدخول إليها والخروج منها على طريق واحدة.
ومنها نوطس: وهي من أرفع البلاد خصباً واسعة الديار عامرة الأقطار.
ومنها أرض طرلنس: وهي مدينة أهلية والبحر محيط بها من جميع جهاتها، ويوصل إليها على قنطرة، وبها أسماك يعجز الواصف عنها. وببحرها يصاد المرجان، وهو نبت في أرض هذا البحر كالشجر، وبها قنطرة عجيبة طولها ثلاثمائة ذراع في عرض عشرين ذراعاً.
جزيرة قبرص: وهي جزيرة كبيرة مقدار ستة عشر يوماً، بها مدن كثيرة وقرى عامرة ومزارع وأنهار وأشجار وثمار؛ وبها معادن الزاج القبرصي الذي ليس في البلاد مثله شيء، وبها من المواشي ما يكفي بلاد الفرنج.
ومن مدن الفرنج
(1/169)
المشهورة افرنسة: وهي مدينة عظيمة مجاورة لجزيرة الأندلس، وهي للفرنج كرومية للروم، كرسي ملكهم ومجتمع أمرهم وبيت ديانتهم، وبها أمم عظيمة لا تحصى كثرة.
أرض الجلالقة: وهي شمالي الأندلس؛ وهي أرض واسعة؛ وبها أمم لا تحصى كثرةً، ومدن عظيمة وقرى عامرة. والغالب على أهلها الجهل والحمق. ومن زيهم أنهم لا يغسلون ثيابهم أبداً بل يلبسونها وسخة إلى أن تبلى؛ ويدخل أحدهم بيت الآخر بغير إذنه، وهم مهملون في أديانهم كالبهائم بل أضل.
أرض الباشقرد: وهي بلاد الألمان وبلاد الإفرنجة؛ وهي أرض كبيرة واسعة وبها مدن.
أرض الكرج: وهي مجاورة لأرض خلاط، آخذها إلى الخليج القسطنطيني، ممتدة إلى نحو الشمال وهي أرض واسعة، وبها مدن عظيمة وبلاد كثيرة
(1/170)
وجبال شاهقة وقلاع منيعة وأرضهم في غاية الخصب والبركة؛ وبيت الملك عندهم محفوظ يرثه الرجال والنساء.
أرض الروم: وهو إقليم واسع الأقطار فسيح الديار، وبه مدن عامرة وضياع ورساتيق وأشجار وفواكه وثمار؛ وبه الخير الغامر والخصب الوافر؛ وكلها على جانبي البحر القسطنطيني ومن جهة بلاد الأرمن، له أحد عشر عملاً، منها عمل حربية وفيه خمسة حصون، وعمل العصاة وفيه ثلاثة حصون، وعمل الأرسيق وفيه خمسة عشر حصناً، وعمل الأفشين وفيه أربعة حصون وعمل حرسنون وفيه أربعون حصناً، وعمل البلقان وفيه ستة عشر حصناً. وهذه الأرض كانت في القديم بلاد اليونان فغلبت الروم عليها؛ ومن جملة أعمالها عمل كرميان وفيه عشرة حصون، وعمل الفنادق وفيه ثمانية عشر حصناً.
وببلاد الروم أيضاً مائة جزيرة كلها في البحر، وكلها عامرة آهلة. ومن مدن الروم المشهورة قسطنطينية وهي مثلثة الشكل، منها جانبان في البحر وجانب في البر وفيه باب الذهب. وطول هذه المدينة تسعة أميال وعليها سور حصين ارتفاعه واحد وعشرون ذراعاً، ويحيط به سور آخر يسمى الفصيل، ارتفاعه عشرة أذرع، لها مائة باب أكبرها الباب المصمت وهو مموه بالذهب، وبها القصر وهو من عجائب الدنيا وذلك أن فيه بديرون وهو كالدهليز إلى القصر، وهو زقاق يمشى فيه بين صفين من صور مفرغة من نحاس بديع الصنعة على صور الآدميين والخيل والفيلة والسباع وغير ذلك، وهي أكبر من الأشكال الموضوعة على أمثالها. وبالقصر وما دار به ضروب من العجائب.
(1/171)
وفي المدينة منارة موثقة بالحديد والرصاص إذا هبت الريح مالت يميناً وشمالاً وخلفاً وأماماً من أصلها، ويوضع الخزف تحتها فتطحنه كالهباء. وفيها أيضاً منارة من نحاس قد قلبت قطعة واحدة وليس لها باب، وبها أيضاً منارة قريبة من مارستانها قد ألبست جميعها من نحاس أصفر كالذهب محكم الصنعة والتخريم، وعليها قصر قسطنطين باني القسطنطينية، على قبره صورة فرس من نحاس، وعلى الفرس شخص على صورة قسطنطين وهو راكب وقوائم الفرس محكمة بالرصاص ما عدا يده اليمنى فهي موقوفة في الجو؛ وقد فتح كفه يشير نحو بلاد المسلمين، ويده اليسرى فيها كرة. وهذه المنارة ترى على مسيرة يوم في البحر، ونصف يوم في البر. ويقولون إن في يده طلسماً يمنع العدو. وقيل إن على الكرة مكتوباً بالرومي: ملكت الدنيا حتى بقيت في يدي مثل هذه الكرة، وخرجت منها هكذا لا أملك منها شيئاً؛ وبها منارة في سوق استبرين من الرخام الأبيض من رأسها إلى أسفلها صور مبنية ودار يزينها قطعة واحدة من النحاس، وبها طلسم إذا طلع الإنسان عليها نظر. إلى سائر المدينة، وبها قنطرة وهي من عجائب الدنيا سعتها يعجز الواصف عن ذكرها حتى يخرج الواصف إلى حد التكذيب، وبها من النقوش ما لا يحده وصف.
(1/172)
رومية الكبرى: مدينة عظيمة، دورها أيضاً تسعة أميال كالقسطنطينية، ولها أسوار محكمة. لها سوران منيعان من حجر، عرض كل سور منهما وسمكه مقدار معين، فأحدهما وهو الداخلي المحيط بالمدينة عرضه أحد عشر ذراعاً وارتفاعه اثنان وسبعون ذراعاً. وهناك أسطوانات من نحاس أصفر وقواعدها ورؤوسها مفرغ منها. وبها نهر يشقها، وهذا النهر كله مفروش ببلاط من نحاس كهيئة اللبن الكبار. وداخل المدينة كنيسة عظيمة طولها ثلاثمائة ذراع وارتفاعها ثلاثمائة ذراع وأركانها من نحاس مفرغ مغطى كلها بالنحاس الأصفر؛ وبرومية ألف ومائة كنيسة وجميع شوارعها وأسواقها مفروشة بالرخام الأبيض والأزرق، وبها ألف حمام وألف فندق، وبها كنيسة هائلة بنيت على هيئة بيت المقدس وبها مذبح، ظهره كله مرصع بالزمرد الأخضر؛ وعلى هذا المذبح تمثال من الذهب الإبريز طوله ذراع بالرشاشي يكون سبعة أذرع ونصف ذراع بذراعنا المعهود، وعيناه من ياقوت أحمر. ولهذه الكنيسة مائة باب، منها أبواب عشرة مصفحة بالذهب وباقيها مصفحة بالنحاس المحكم. وبها قصر الملك المسمى البابا، وهو قصر عظيم أجمع المسافرون على أنه لم يبن مثله على وجه الأرض؛ ورومية أكبر من أن يحاط بوصفها ومحاسنها ولها مدن قواعد مشهورة منها قشمير: وهي مدينة كبيرة تشبه رومية في الحسن والبنيان، ويقال إنها مدينة أهل الكهف.
(1/173)
وأما أصحاب أهل الكهف: فهم في كهف في رستاق بين عمورية ونيقية، وهم في جبل عال علوه نحو ألف ذراع، وله سرب من وجه الأرض كالمدرج يتعدى إلى الموضع الذي هم فيه. وفي أعلى الجبل كهف يشبه البئر ينزل منه إلى باب السرب ويمشى مقدار ثلاثمائة خطوة، ثم يفضى إلى ضوء هناك فيه رواق على أساطين منقورة فيها عدة بيوت، منها بيت مرتفع العتبة مقدار قامة، وعليه باب من حجر، وفيه أصحاب الكهف وهم سبعة نيام على جنوبهم، وأجسامهم مطلية بالصبر والكافور، وعند أرجلهم كلب راقد مستدير، رأسه عند ذنبه، ولم يبق منه إلا رأسه وعجزه. وفقار الظهور، ووهم أهل الأندلس في أصحاب الكهف حيث زعموا أنهم الشهداء الذين في مدينة لوشة، قال بعض الثقات: لقد رأيت القوم وكلبهم في هذا الكهف بين عمورية ونيقية سنة عشر وخمسمائة.
(1/174)
القرم: مدينة عظيمة بها أسواق ومساجد وفنادق وحمامات، وهي فرضة مملكة الترك وما حولها، وبها اللحم والسمك والعسل واللبن كثير جداً، وبيوتها غالباً خشب.
وأما ما على البحر النيطشي من بلاد الروم فمدن عظيمة مثل أطرابدية وخزية، وقابية وقمانية السوداء، وسميت بذلك لأن لها نهراً يدخل في شعب جبل وماؤه أبيض كالزلال ويخرج منه أسود كالدخان، وقمانية البيضاء وتسمى مطلوقة وماطر خاروسية وأردبيس وفلبسين، وكلها مدن عظام قواعد بلاد الروم، وبين أردبيس وحصن زيادة شجرة عظيمة لا يعرف أحد ما هي وما اسمها؟ ولها حمل يشبه اللوز ويؤكل بقشره وهو أحلى من العسل.
أرض الصقالبة: وهي أرض كبيرة واسعة من ناحية الشمال وبها مدن وقرى ومزارع، ولهم بحر حلو يجري من ناحية المغرب إلى المشرق، ونهر آخر يجري من
(1/175)
ناحية البلغار ليس لهم بحر ملح لأن بلادهم بعيدة عن الشمس، ولهم على البحر مدن وبلاد وقلاع منيعة.
أرض الجنوبة: وهي أرض واسعة، وبها مدن وبلادهم غربي قسطنطينية على بحر الروم. ومن مدنهم المشهورة جنوة وهي مدينة حصينة ذات أسوار.
أرض البنادقة: وهي إقليم عظيم ومدينتهم العظمى تسمى بندقية وهي على خليج يخرج من بحر الروم ويمتد نحو سبعمائة ميل في جهة الشمال، وهي قريبة من جنوة بينها وبين جنوة في البر ثمانية أيام، وأما في البحر فبينهما أما بعيد أكثر من شهرين، والبندقية مقر خليفتهم واسمه البابا وهي شمال الأندلس. ومدنهم كلها على جانبي الخليج البندقي، وهي مدن وقرى عامرة ورساتيق.
أرض برجان: وهي أرض عظيمة واسعة، وبها من البرجان أمم لا تحصى، وهي أمة طاغية قاسية وبلادهم واغلة في الشمال.
(1/176)
الباب والأبواب: وهي شمالي أرض الفرس: أما الباب: فبناها أنوشروان على بحر الخزر، وبها بساتين وفواكه، وبها مرسى الخزر وغيره، وعليها سلسلة تمنع الداخل والخارج.
وأما الأبواب: فهي شعاب في جبل القبق، واسم هذا الجبل في كتب التواريخ القديمة جبل الفتح، وفيها حصون كثيرة، منها باب صول وباب اللان، وباب السابران، وباب الأزقة وباب سجسجي، وباب صاحب السرير، وباب قيلان شاه، وباب كوريان، وباب إيران شاه، وباب ليان شاه، وجبل الفتح هذا المذكور هو جبل عظيم شامخ. وزعم أبو الحسن المسعودي أن فيه ثلاثمائة بلد، كل بلد له لسان لا يشبه الآخر.
قال الجواليقي: وكنت أنكره حتى تحققته، وهذا الجبل فيه كثير من الممالك فمنها: مملكة شروان شاه، وهي ملكة واسعة لها إقليم ومدن وقرى وعمارات.
ومنها مملكة الكر: وهي مملكة واسعة ذات أقاليم ومدن وقرى وعمارات وأمم عظيمة جبارة كفار لا ينقادون لأحد، ومملكة لايذان شاه، ومملكة الموقانية، ومملكة الدودانية وأهلها أخبث العالم، ومملكة طبرستان، ومملكة حيدان، ومملكة عتيق، ومملكة زنكوان، ومملكة الجندخ، ويقال إن لهذه المملكة اثني عشر ألف قرية، ومملكة اللان ومملكة الأنجاز، ومملكة الخزرجية، ومملكة السخطا، وهم قوم جبارون لا ينقادون لأحد، ومملكة الصعاليك ومملكة كشك، ويقال إن أهل هذه المملكة ليس في الممالك أحسن من رجالهم ولا من نسائهم ولا أكمل محاسن ولا أجمل أوصافاً ولا أطيب خلوة ولا مضاجعة لنسائها، من الحسن والتيه والصلف واللذة الزائدة الوصف التي لم توجد في سائر نساء الدنيا، ويبلغ الرجل منهم المائة
(1/177)
وقوته في نفسه وفي مجامعته باقية، وإذا جامع الواحد منهم امرأة فإنه ينسى الدنيا وما فيها إلى أن ينفصل عن المجامعة، ونساؤها إذا بلغت المرأة خمسين سنة أو ستين أو سبعين فلا تتغير محاسنها عما كانت عليه وهي ابنة عشرين سنة، فسبحان الخالق البارئ المصور الفتاح الرزاق.
ومملكة السبع بلدان، ومملكة إرم، وفي هذا الجبل صحراء كالكهف نحو من مائة ميل بين جبال أربعة ذاهبة في الهواء. وفي وسط هذه الصحراء دائرة منقورة كأنها قد خطت ببيكار منحوتة من حجر صلد استدارتها خمسون ميلاً قطعها قائم كأنه حائط مبنى، بعد قعرها نحو من ستة أميال بالتقريب، لا سبيل إلى الوصول إلى مستوى تلك الدائرة، ويرى فيها بالليل نيران عظيمة في جهات مختلفة، ويرى بها أنهار مادة ولكن كرقة الأصابع، ويرى فيها بالنهار وقت الظهيرة أناس لطاف الأجسام جداً كالذباب، ويرى فيها دواب كالنمل، ولا يعلم من البشر هم أم من غيرهم، ولا يزال الضباب عليها والأبخرة تتصاعد منها. وعند الله علمها.
ومن وراء تلك الدائرة دائرة أخرى صغيرة قريبة العقر فيها آجام وغياض، وفيها نوع من القرود منتصبات القامات والقدود مدورات الوجوه كالآدميين، إلا أنهم ذوو شعور، وهم في غاية الفهم والذكاء، وإذا وقع القرد الواحد منهم لأحد من تلك الأرض حمله إلى من شاء من الملوك فيحصل له بواسطة ذلك الخير الكثير، لأن الملوك يرغبون في تلك القرود لخاصية فيها ويبذلون المال الكثير في القرد الواحد منها. فمن ذكائه وخاصيته أنه يقف على رأس الملك بالمذبة ليلاً ونهاراً ينش عليه ولا يضجر ولا يفتر، وإذا قدم إلى الملك طعام وضع منه في إناء وقدم إليه فإن تناوله القرد وأكله أكل الملك من ذلك الطعام وإن تناوله ورده ولم يأكل منه شيئاً علم الملك أن الطعام مسموم.
(1/178)
ويقال إن بين الخزر وبين بلاد المغرب أربع أمم من الترك يرجعون إلى أب واحد وهم ذوو بأس شديد وقوة، ولكل أمة منها ملك وهي: قحلى، ويجعود، ويحناك، وأبو جردد، ويقال إن الفرس لما فتحت تلك البلاد بنى قباذ مدينة البيلقان وبردغة وسد البر، وبنى أنوشروان وابنه مدينة السابران وكسكر والباب، والأبواب، وعمل على أبواب جبل القيق الذي يقال إنه جبل الفتح من خارجه ثلاثمائة وستين قصراً مما يلي أرض الخزر.
أرض الروس: وهي أرض واسعة الأقطار إلا أن العمارات بها منقطعة لا متصلة، وبين البلد والبلد مسافة بعيدة، وهم أمم عظيمة لا ينقادون لأحد من الملوك ولا لشريعة من الشرائع وعندهم معدن الذهب؛ ولا يدخل إليهم غريب إلا قتلوه في الوقت والحال: وأرضهم بين جبال محيطة بها وتخرج من هذه الجبال عيون كثيرة تقع كلها في بحيرة تعرف بطوهي وهي بحيرة كبيرة في وسطها جبل عال فيه وعول كثيرة وتبر كثير؛ ومن طرفها يخرج نهر ديانوس.
وغربي أرض الروس جزيرة دار موشة؛ وفي هذه الجزيرة أشجار أزلية كثيرة منها أشجار إذا دار حول ساقها عشرون رجلاً ومدوا باعاتهم على ساق الشجرة
(1/179)
الواحدة فلا يحرشوا بها. وأهلها يوقدون النار في بيوتهم نهاراً لبعد الشمس عنهم وقلة الضوء. وبهذه الجزيرة قوم مستوحشون يعرفون بالبراري رؤوسهم لاصقة بأكتافهم ولا أعناق لهم، ودأبهم ينحتون الأشجار الكبار، ويتخذون أجوافها بيوتاً يأوون إليها، وأكلهم البلوط. وبها من الحيوان المسمى بالببر شيء كثير، وهو حيوان غريب الوصف ولا يوجد ولا يعيش إلا في تلك الأمكنة.
والروس ثلاث طوائف طائفة تسمى كركيان ومدينتهم تسمى كركانية؛ وطائفة تسمى أطلاوة ومدينتهم تسمى طلو؛ وطائفة تسمى أرتى ومدينتهم تسمى أرتى.
أرض التركش: وهي طويلة عريضة متاخمة لسد يأجوج ومأجوج، ويجلب من جهتها السنجاب الفاخر، والسمور والحرير والمسك وجلود النمر.
أرض الخزر: وهي أرض واسعة وبها أمم لا تحصى؛ ومن مدنها المشهورة سمندو وهي مدينة حسنة؛ وكانت في القديم مدينة عظيمة وكان بها من الكروم ما يخرج عن حد الوصف، فخربتها الروس. وآخر أعمالها أول أعمال صاحب السرير، وهي مدينة عظيمة وتسمى صاحب السرير؛ لأن صاحبها اتخذ سريراً من ذهب مرصعاً بالجواهر يقصر عنه الوصف صنع له في عشر سنين؛ فلما تغلبت الروم على بلده بقي السرير على حاله، وقيل إنه باق إلى الآن.
أثل: وهي مدينة كبيرة عامرة، وأكثر بيوتها خركاوات ولبود، وهي ثلاث قطع يقسمها نهر عظيم يرد من أعالي البلاد التركية ويسمى نهر أثل يتشعب من هذا النهر ثم يمر نحو بلاد التغزغز، ويصب في بحر نيطش وهو بحر الروس،
(1/180)
ويتشعب من هذا النهر نيف وسبعون نهراً، وليس من الملوك التي في تلك النواحي من عنده جند مرتزقة غير ملك الخزر.
برطاس: أرض طويلة مقدار خمسة عشر يوماً وهم متاخمون الخزر وبيوتهم خركاوات ولبود. ونهر برطاس يأتي من نحو بلاد التغزغز، وعليه مدن كثيرة وبلاد عامرة. ومن بلاد برطاس تحمل جلود الثعالب السود التي تسمى البرطاسي. قال المسعودي؛ تبلغ الفروة السوداء منها إلى مائة دينار. وفي أرض الخزر جبل يسمى باثرة وهو معترض من الجنوب إلى الشمال وفيه معادن الفضة السهلة المأخذ ومعادن الرصاص. وليس على بحر الخزر من الضفة الشرقية عمارة.
أرض البلغار: وهي واسعة ينتهي قصر النهار فيها عند البلغار والروس في الشتاء إلى ثلاث ساعات ونصف ساعة. قال الجواليقي: ولقد شهدت ذلك عندهم فكان طول النهار مقدار ما أصلي أربع صلوات، كل صلاة في عقيب الأخرى مع الأذان وركعات قلائل والإقامة والتسبيح. وعماراتها متصلة بعمارة الروم وهم أمم عظيمة ومدينتهم تسمى بلغار وهي مدينة عظيمة يخرج واصفها إلى حد التكذيب.
أرض الغزية: وهي غربي أرض الأدكش، وهي أرض واسعة متصلة العمائر من جهة الشمال والغرب والشرق ولهم جبال منيعة وعليها حصون حصينة، وينزل إليهم نهر من جبل مرغان، يوجد في هذا النهر إذا زاد التبر الكثير ويخرج من قعره
(1/181)
حجر اللازورد، وفي غياضه التبر الكثير. وبها ثعالب صفر لونها لون الذهب يتخذ منها فراء لملوك تلك الناحية، تبلغ الفروة منها جملة من المال، ولا يدعون أحداً يخرج بشيء منها إلى البلاد، ومن خرج بشيء من ذلك خفية استباحوا دمه وماله، كل ذلك بخلاً بها واستحساناً وافتخاراً بها.
أرض الأدكش: وأهلها صنف من الترك عراض الوجوه كبار الرؤوس صغار العيون كثيرو الشعور، وأرضهم عريضة طويلة واسعة كثيرة الخيرات والخصب، وهي شرقي الغزية، وبها من المواشي واللبن والعسل شيء لا يوصف، حتى إن الرجل يذبح الشاة ولا يجد من يأكلها، وأكثر أكلهم لحوم الخيل وشربهم ألبانها.
وجنوبها بحيرة تهامة وهي بحيرة عظيمة دورها مائتان وخمسون ميلاً وماؤها شديد الخضرة إلا أن ريحه ذكي وطعمه عذب جداً. وبها سمك عريض جداً إذا وقعت هذه السمكة في شبكة الصياد انتشر في الحال ذكره وقام على حيله وأنعظ إنعاظاً شديداً، ولا يزال كذلك حتى يخرج السمكة من شبكته، ولونها مرقش فيه من كل لون عجيب حسن. وتزعم الأتراك أن الشيخ الهرم إذا أكل من لحم هذه السمكة أمكنه أن يفتض الأبكار لقوة خاصية هذه السمكة.
وفي وسط هذه البحيرة أرض كالجزيرة وفي وسط الجزيرة بئر محفورة لا يحس لها قعر ولا منتهى، وليس بها شيء من الماء، وبهذه الجزيرة أنهار كثيرة كبار منها نمامة وهو نهر عميق وخروجه من ثلاث عيون دفاعة. وأهل تلك البلاد يقصدون هذا النهر بأولادهم يغمسونهم فيه قبل البلوغ والاحتلام فلا يصيبهم بعد ذلك من أمراض الدنيا شيء البتة، إلا ما جاء من قبل الموت. وإذا مرض عندهم أحد من هؤلاء المغموسين علموا أن موته في تلك المرضة، صح لهم ذلك في تجاربهم. وإذا سقي العليل من مائه برأ من علته، كائنةً ما كانت، بعد سبعة أيام من وقت شربه.
(1/182)
وإذا غسل الإنسان رأسه بالغاً كان أو غيره، لم يحصل لرأسه صداع في تلك السنة. وقد أكثروا الكلام في هذا النهر حتى إنهم قالوا أشياء يجب السكوت عنها، وقدرة الله عز وجل صالحة لكل شيء خارق.
وشرقي هذه البحيرة جبل مراد وهو جبل مرتفع لا يمكن الصعود إليه من حيث الظاهر بوجه من الوجوه لأنه كالحائط القائم الأملس، وفي أسفله باب كبير فيه بيت متسع يتوصل منه إلى جوف هذا الجبل فيه مدرج يصعد منه إلى أعلى الجبل حيث المدينة. وبوسط هذه المدينة عين نابعة يشربون منها ويفيض باقي مائها فيصب في حفيرة على سور المدينة، لا يعلم أين يذهب ولا أين يستقر.
وشمالي أرض الأدكش جبل مرغان وهو جبل طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثماني عشرة مرحلة، في وسطه موضع عال مستدير كالقبة، وفي وسطه بركة ماء لا يقدر أحد على العوم فيها، لا من انسان ولا من حيوان، لأن كل شيء نزل فيها ابتلعته، حتى إنهم رأوا فيها أخشاباً كباراً أو صغاراً تبتلعها في الحال. ويقال إن في تلك البركة أسفل الجبل مغارة يسمع فيها دوي عظيم هائل، يعلو دويه في وقت وينخفض في وقت، ومتى تقدم أحد إليها من انسان أو غيره لم ير بعد ذلك، يقال إنه يخرج منها ريح جاذبة للمعترض لها، فتأخذه إلى داخل المغارة. وقد حكى صاحب كتاب العجائب والغرائب عن هذه المغارة أشياء لا يمكن ذكرها ويجب السكوت عنها لعدم قبول العقل لها، ونشهد أن الله على كل شيء قدير.
أرض سحرت: وهي أرض واسعة، وبها جبل إرجيفا، وبها معادن النحاس يعمل فيها أكثر من ألف صانع لصاحب سحرت، ويعمل في هذه الأرض من الفخار والبرام شيء عجيب، وبساحل بحرها ألوان من الحجارة الملونة المثمنة.
أرض خزخيز: وهي متصلة بأرض التغزغز من المشرق شمالاً مما يلي البحر الصيني، وهي أرض واسعة كثيرة المياه وافرة
(1/183)
الخصب، بها نهر يجري إليهم من نحو الصين، وعليه أرحاء وبه أنواع السمك المسمى بالسطرون الذي يفعل في قوة الجماع ما لا يفعله السقنقور وليس له شوك.
وبقربها جزيرة الياقوت ويحيط بهذه الجزيرة جبل صعب المرتقى لا يوصل إلى ذروته إلا بجهد جهيد، ولا يوصل إلى أسفل الجزيرة أصلاً لأن بها حيات قتالة، وبأرضها حجارة الياقوت، وأهل تلك الأرض يتحيلون عليه بأن يذبحوا الدواب ويقطعوها وهي حارة ويلقوا بها في تلك الجزيرة، فتقع على الأحجار ويتعلق بها ما قسم، فيخطفها الطير ويخرج بها من الجزيرة فيتبعون محط الطير فيجدون ما يجدون. وهذه الأمة تحرق موتاها بالنار.
أرض الكيماكية: هي شمال أرض التغزغز، وهم أمم عظيمة وأرضهم عامرة كثيرة الخصب وبأرضهم مفاوز عظيمة ولهم قلعة حصينة وشربهم من الآبار المنقورة. وجميع ساحل الكيماكية يوجد فيه التبر عند هيجان البحر فيجمعونه ويصولونه من الزئبق ويسكبونه في أرواث البقر فيأخذ الملك حصة من ذلك والباقي لصاحبه. وأهل المدينة هذه المعروفة بكيماكية يلبسون الحرير الأصفر والأحمر ويعبدون الشمس، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أرض الخلخية: أرض واسعة ولها قلعة حصينة في رأس جبل شاهق، والماء قد عم ذلك الحصن مستديراً به من جميع جهاته وأهلها ذوو عدد وعدد.
أرض الخزلجية: شمالي بلاد التبت وغربي بلاد التغزغز وهي طويلة عريضة، وبها أمم عظيمة من الترك ومدينتهم العظمى تسمى خاقان الخزلجية وهي في غاية الحصانة ولها اثنا عشر باباً من الحديد الصيني.
(1/184)
الأرض المنتنة: وهي أرض ممتدة طولها عشرة أيام في عرض عشرة وهي خرساء الأطناب سوداء الإهاب، وأهلها جرد الثياب، وماؤها غائر ودليلها جائر ورائحتها منتنة وأهويتها وخمة، وهي غربي الأرض الخراب التي خربها يأجوج ومأجوج، وهي بلاد موحشة.
أرض الخراب: بلاد واسعة الأقطار خالية الديار لا يدخلها سالك، ومن دخلها وقع في المهالك لكثرة وبائها ووحشة أرضها وتغير هوائها وكثرة الأمطار وعدم الساكن والسالك ووجود الأخطار. وقيل إنها في هذا الوقت قد عمرت.
أرض يأجوج ومأجوج: والجبل الذي يحيط بهم يسمى فزنان وهو جبل قائم الجنبات لا يصعد عليه أحد وبه ثلوج منعقدة لا تنحل عنه أبداً، وبأعلاه ضباب لا يزول أبداً، وهو ماد من بحر الظلمات إلى آخر المعمورة لا يقدر أحد صعوده، وخلق هذا الجبل من بلاد يأجوج ومأجوج عدد لا يحصى. وفي هذا الجبل حيات وأفاع عظام جداً، وربما رقي هذا الجبل في النادر من يريد أن ينظر إلى ما وراءه فلا يصل إليه ولا يمكنه الرجوع فيهلك، وربما رجع من الألف واحد فيخبر أنه رأى خلف الجبل نيراناً عظيمة.
يقال إن يأجوج ومأجوج كانا أخوين شقيقين تناسلا وكانت لهم غارات على من جاورهم قبل وصول ذي القرنين إليهم، فأخلوا كثيراً من البلاد وأهلكوا غزيراً من العباد، وكانت منهم طائفة عفيفة ينكرون ذلك عليهم، فلما وصل ذو القرنين إليهم وأغار بجيوشه عليهم شكت الطائفة العفيفة إليه يأجوج ومأجوج وما فعلوه في البلاد والأمم المجاورة لهم من الفساد وأنهم على خلاف مذهبهم وبريئون من معتقدهم ومفتعلهم، وشهدت لهم قبائل كثيرة بذلك، فمال إليهم وتركهم خارج السد، وأقطعهم تلك الأراضي يعمرونها ويأكلونها، وهم الخزلجية والسنية
(1/185)
والخزخيزية والتغزغزية والكيماكية والجاجانية والأدكش والتركش والخفشاخ والجليخ والغز والبلغار، وأمم عظيمة يطول ذكرها، وسد على المفسدين. وكل المفسدين قصار القدود لا يتجاوز أحدهم ثلاثة أشبار، ووجوههم في غاية الاستدارة وعليهم شعور مثل الزغب وآذانهم مستديرة مسترخية، تلحق أذن الرجل منهم طرف منكبيه. وألوانهم بيض وحمر وكلامهم صفير وفيهم زنا فاحش، وبلادهم ذات أشجار ومياه وثمار وخصب كثير ومواش كثيرة إلا أنها بلاد ثلج ومطر وبرد على الدوام.
حكي عن سلام الترجمان، وكان عارفاً بألسن كثيرة حتى قيل: إنه كان يعرف أربعين لغة ويجاري فيها، أنه رأى هذا السد عياناً وذلك أن أمير المؤمنين الواثق بالله من خلفاء بني العباس بعثه إليه ليراه ويتحقق كيفيته
(1/186)
ويخبره بصفته عن حقيقته، فمشى إليه وعاد بعد سنتين وأربعة أشهر فأخبره أنه سار ومن معه حتى وصلوا إلى صاحب السرير بكتاب أمير المؤمنين فأكرمهم وأرسل معهم أدلاء فمضوا حتى دخلوا إلى تخوم سحرت وساروا إلى أرض طويلة ممتدة كريهة الرائحة فقطعوها في عشرة أيام وكان معهم شيء يشمونه لأجل تلك الرائحة التي في تلك الأرض فإنها تأخذ بالقلب، وانفصوا من تلك الأرض ووقعوا في أرض خراب لا حسيس بها ولا أنيس مسيرة شهر، وخرجوا منها إلى حصون بالقرب من جبل السد، وأهل تلك الحصون يتكلمون بالعربية والفارسية.
وهناك مدينة عظيمة اسم ملكها خاقان أتكش، فسألونا عن حالنا فأخبرناهم أن أمير المؤمنين الخليفة على المسلمين أرسلنا لنرى السد عياناً ونرجع إليه بصفته فتعجب هو ومن عنده منا ومن قولنا أمير المؤمنين الخليفة ولم يعرفوا ما هو؟ وبقي السد عنا فرسخين من هذه المدينة.
ثم سرنا ومعنا أناس منهم حتى سرنا إلى باب بين جبلين عظيمين عرضه مائة وخمسون ذراعاً وفيه باب من حديد طوله مائة وخمسون ذراعاً وقد اكتنفه عضادتان، عرض كل عضادة منهما خمسة وعشرون ذراعاً وارتفاعها مائة وخمسون ذراعاً، وعلى أعلاها دروند من حديد طوله مائة وخمسون ذراعاً وهي العتبة العليا، وفوقه شرافات من حديد، في طرف كل شرافة قرنان من حديد منثنيان إلى الشرافة الأخرى يتصل بعضها ببعض، وكل ذلك من لبن حديد مغيب في نحاس مذاب، وللباب مصراعان مغلقان عرض كل مصراع خمسون ذراعاً في ثخن أربعة أذرع، وقائمتان في
(1/187)
ذروتي الجبلين على قدر الدروند. وعلى الباب قفل من حديد طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع ونصف وارتفاع القفل من الأرض أربعون ذراعاً وفوق القفل بخمسة أذرع حلقة أطول من القفل بخمسة أذرع، وعليها مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، وله اثنتا عشرة سنة من الحديد، معلق في حلقة طولها وعرضها ذراع في ذراع بسلسلة من الحديد المصفى. وعتبة الباب السفلى سمك عشرة أذرع وطولها مائة ذراع من حديد مغموسة الطرفين تحت العضادتين، وكلها بالذراع الرشاشي.
ورئيس تلك الحصون يركب في كل جمعة في كبكبة عظيمة حتى يأتي الباب، وبأيديهم مرزبات من حديد فيضربون بها على ذلك الباب، فتدوي تلك الأرض ليسمع من خلف الباب من يأجوج ومأجوج، فيعلمون أن هناك حفظة وحراساً. وبعد ضرب الباب ينصتون بآذانهم مستمعين فيسمعون من وراء الباب دوياً كدوي الرعد.
وبقرب هذا السد حصن طوله عشرة أذرع في عشرة، ومع هذا الباب من الجانبين حصنان كل واحد منهما مائة ذراع في مائة ذراع. وبين هذين الحصنين عين ماء عذب. وفي أحد الحصنين بقية من آلات البناء، وهي قدور من حديد ومغارف من حديد، وهي فوق دكك مرتفعة، وعلى كل دكة أربع قدور وهي أكبر من قدور الصابون. وهناك أيضاً بقايا من اللبن الحديد وقد لصق بعضها ببعض من الصدأ، طول كل لبنة ذراع ونصف في عرض ذراع وارتفاع شبرين. وأما الباب المذكور والدروند الذي في أعلاه، والقفل، فكأنما فرغ الصانع من عمله الآن، وهي غير صدئة ولا بالية، قد دهنت بأدهان الحكمة المانعة من الصدأ.
(1/188)
قال سلام الترجمان: سألت من هناك هل رأيتم قط أحداً منهم؟ فأخبروا أنهم رأوا منهم عدداً كثيراً فوق شرفات السد، فهبت بهم ريح عاصف فرمت منهم ثلاثة، كل واحد منهم طوله دون ثلاثة أشبار، ولهم مخاليب موضع الأظفار، وأنياب وأضراس كالسباع، وإذا أكلوا بها يسمع لأكلهم حركة قوية، ولهم أذنان عظيمتان يفترشون الواحدة ويلتحفون الأخرى.
فكتب سلام هذه الصفات كلها في كتاب ورجع إلى الخليفة الواثق بالله.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن يأجوج ومأجوج يرزقون التنين، يقذفه عليهم السحاب فيأكلونه، وإنما يقذف عليهم ذلك في أيام الربيع في كل عام، فإذا تأخر ذلك عن وقته المعهود استمطروه كما يستمطر الناس الغيث. وحكى صاحب كتاب العجائب أن في داخل بلاد يأجوج ومأجوج نهراً يسمى المسهر لا يعرف له قعر، وإذا تقاتلوا وأُسر بعضهم طرحوا الأسرى في ذلك النهر فيرون عند ذلك طيوراً عظاماً تخرج إلى من يطرح في ذلك النهر من كهوف هناك في جانبي الوادي، فتخطفهم قبل أن يصلوا إلى الماء وترتفع بهم إلى تلك الكهوف فتأكلهم هناك. ويقال إن بهذا الوادي ناراً تتأجج طول الزمان بقدرة الله تعالى وليس وراء يأجوج ومأجوج إلا المحيط والله سبحانه وتعالى أعلم: " وما يعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو وما هيَ إلا ذِكرى للبشَر ". " ويخلُق ما لا تعلمون، وعلى اللهِ قَصْدُ السبيل ".
انتهى فصل البلدان والأقطار ولنسرع الآن في ذكر الجبال والبحار والجزائر والآبار وما بها من العجائب للاعتبار.
(1/189)
يمكنك مشاهدة توقيعي بالنقر على زر التوقيع
|
|
|
المفضلات