بعد أن عين الإمام أبو العزائم مدرساً في مديرية المنيا، شاءت إرادة الله أن يتوفى السيد أحمد ماضي، الأخ الأكبر رغم صغر سنه، بعد أن بزغ نجمه في عالم الصحافة، حتى سمي (شيخ الصحافة الإسلامية).
فانتقل الإمام بالأسرة كلها، واستقر بهم في بلدة المطاهرة جنوب المنيا.
وفي ذلك الوقت تلقى الأمر من سيدنا رسول الله r بالدعوة إلى الله
فرأى في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول (أي ليلة ميلاد رسول الله ) رأى رسول الله وشرح له في تلك الرؤيا كثيراً من معاني الآيات القرآنية.
ولقنه صيغ في الصلاة على حضرته سماها (الفتوحات الربانية والمنح النبوية في الصلاة على خير البرية).
ثم لقنه دعاء الغوث (غوث العصر)، وأمره أن يدعو به، وأن يلقنه لجميع المسلمين، وهو :
{ اللهم باسمك العظيم الأعظم، وبجاه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبسر أسمائك الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم، أن تعجل بالانتقام ممن ظلم، وأن تهلك الكافرين بالكافرين، وتوقع الظالمين في الظالمين، وتخرج المسلمين من بينهم مسالمين غانمين آمين يا رب العالمين }
بدء دعوته
فبدأ منذ ذلك الحين تبليغ رسالة الله، ودعوة الخلق إلى الله.
كيف كان ذلك ؟
كان يقضي معظم وقته مع الخلق، يقرأ عليهم دروساً في مذهب الإمام مالك بالمسجد، ويتكلم معهم في الأخلاق والتوحيد وغيرها بعد ذلك.
فإذا كان يوم الخميس من كل أسبوع، أخذ زاده معه وذهب إلى إحدى القرى أو المدن المجاورة، فيؤم بيت الله، ويجلس مع المصلين يحدثهم بما يفتح الله عليه من العلوم والمعارف الإلهية في شرح الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، حتى إذا آنس منهم الرغبة في العودة إلى منازلهم، صرفهم بلطف ...
ويصرُّ أن يبيت بالمسجد، فيحي ليله بذكر الله، حتى إذا اقترب الفجر، قام فتوضأ وصلى ما تيسَّر له، ثم يصعد إلى مأذنة المسجد، فيردد بصوته الندي ما يلهمه الله به، من المواجيد الروحانية والقصائد الصوفية، حتى يحين موعد الآذان، فيؤذن للفجر ويصلي بالناس جماعة، ثم يعتكف في بيت الله حتى صلاة الجمعة فيؤدي الخطبة، وينصرف إلى منزله بالمطاهرة.
فكان لهذا الحال دوى كبير وأثر عظيم في نفوس الناس حتى أن دعوته وصلت إلى كل مدن الصعيد، من الجيزة حتى أسوان في وقت قصير جداً، وما ذلك إلا لصدق إرادته وصفاء يقينه، ومدى اخلاصه وفناءه بكله في دعوة الله
ومما يدل على ذلك أنه رضى الله عنه وأرضاه، كان سائراً مع بعض رفاقه بالقرب من سمالوط بمحافظة المنيا، وأدركتهم العشاء بالقرب من الدير الشهير هناك، فأمر أحد أصحابه أن يؤذن، وأمر الباقين بتجهيز المكان والتجهز لأداء الصلاة.
وأثناء قيامهم بأداء الصلاة، أحس الرهبان بدافع غريب يدفعهم إلى الخروج لمشاهدة هذا الشيخ المسلم ورفاقه، وبعد انتهاء الصلاة أخذ يشرح بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن سيدنا عيسى والسيدة مريم، فما كان منهم إلا أن أخذوا يقتربون رويداً رويداً وهم لا يشعرون، حتى انضموا إلى الحلقة المحيطة بالشيخ ... وظل هذا المجلس لساعات !!! حتى عرضوا عليه استضافته في الدير، فدخل وقضى معهم الليلة حتى مطلع الفجر، وانتهت تلك الليلة المباركة بإسلامهم جميعاً، وتغيير أسمائهم إلى أسماء إسلامية سماها، وسمى كبيرهم: الجنيد.. وقد قال في ذلك معبراً عما حدث له تلك الليلة:
حبيبي قد شرح صدري
وآنسني إلى الفجر

وأطلعني على معنى
من الإحسان والبر

ورقاني إلى أعلى
مقام القرب والسير

سمعت حنين رهبان
لدى نظرى الى الزهر

وعند شهودهم حسني
تمنوا يقتفوا أثري

وناداني الإمام هيا
أتاك الوصل بالبشر

فقم للدير يا ماضي
فإني قد صدر أمري

تملَّى بي وشاهدني
ومل عندي عن الغير

وأنبأ من يرد قربي
بحسني حيث لا يدري
قصة الشيخ الصبيحى ..... ثم انتقل الامام ابو العزائم إلى بلدة الإبراهيمية بمحافظة الشرقية، وكأنما كان النقل لأمور يريدها الله، وأحوال يريد أن يبينها ويظهرها .. فقد تعرف هناك على أول رجل أكمل الإمام تربيته، وشهد له ببلوغه مقام الرجال في هذه البلدة، وهو الشيخ الصبيحي ، وكان الشيخ الصبيحى عالماً من علماء الأزهر، إلا أنه رفض الوظائف الحكومية، وأثر أن يشتغل بالأعمال الحرة، ففتح دكاناً يبيع فيه البضائع المختلفة، وكان مشغولاً بعلوم الكيمياء، وما يدعى بعض المنتحلين إلى هذا العلم، من تحويل المعادن إلى ذهب.
وقد حضر الشيخ الصبيحى درساً للإمام بالمسجد الكبير بالبلدة، وكان الإمام قد ألمح أثناء هذا الدرس إلى علم الكيمياء، وصناعتها، ودور جابر ابن حيان فيها، وكيف أن الأصول التي استنبطها جابر خفيت على من بعده، فلم يتمكنوا من تطبيق قواعده وقوانينه !!
ففهم الشيخ الصبيحي من ذلك، أن الإمام يعرف أسرار الكيمياء التي اخترعها جابر، وبالتالي يعرف تحويل المعادن إلى ذهب، فطلب منه بعد الصلاة أن يتلقى على يديه هذا العلم، وأظهر الإمام الموافقة، ولازمه مدة، والشيخ يريد أن يخرجه من هذا الوهم، بالحكمة الروحانية، ولكنه كان مصراً على ما أراد، حتى حدث له ما ثنى عزمه عن ذلك !! دخل الشيخ الصبيحى دكانه ... فوجد كل أصناف البضاعة في نظره ذهباً خالصاً !!! ، وكلما جاءه مشترى، والمشتري بالطبع يرى الصنف على حالته الطبيعية، فيقول له: اعطني كذا؟ فيذهب الشيخ الصبيحي إلى الصنف فيجده ذهباً. فيقول له: هذا الصنف غير موجود !!، والمشتري يراه !! فيقول له: هذا الصنف موجود ... وهو هذا! وقد ذهبت إليه! فيقول: لا أبيعه لك. !!! ولا زال مستمراً على هذا الحال حتى وصفه الناس بالجنون.
وإذا بالإمام أبي العزائم يأتي إليه ويرده إلى حالته، ويشرح له كيمياء الصالحين ويقول له: { يا بني! إن كيميائنا هي تقوى الله، ومراقبته } ، ولا زال به حتى وصل إلى حال كمل الأولياء في الصدق والصفاء والطهر والنقاء .
ثم حدث أن سرحت وزارة المعارف بايعاز من الإنجليز عدداً كبيراً من المدرسين بحجة ضغط المصروفات الحكومية، فرجع إلى المنيا، وكتب طالباً إعادة تعيينه، فاستجابت الوزارة، وعين بالمنيا ... واستقر بها بعض الوقت .. ثم انتقل إلى أسوان وادفو، وفي تلك الأثناء، طلبت حكومة السودان تعيين مدرسين بها، فتقدم واختارته اللجنة الخاصة بذلك ... وعين مدرساً بحكومة السودان في بلدة ((سواكن)) بجنوب السودان.... يتبع ان شاء الله