و اذا جاء ما يقربك شبرا مع ما يبعده , فقد عاد الى ما كان عليه , لا له و لا عليه , و ان كان أحد الفعلين مما يقربه شبرين و الفعل الثاني مما يبعده شبرا واحدا , حصل لا محالة شبر. و احتج من زعم أن المشوب لا ثواب عليه بوجهين : الأول ما روى أبو هريرة رضي الله عنه , أنه عليه الصلاة و السلام قال لمن أشرك في عمله , " خذ أجرك ممن عملت له " , و عنه صلى الله عليه و سلم , قال : " ان الله تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك , فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركت فيه نصيبي لشريكي " . و أجيب بأن لفظ الشريك محمول على تساوي الداعيين , و قد بينا عند التساوي , فيحبط كل منهما بالآخر . واعلم أن خاطر الشيطان قد يكون في صور العبادات و أنواع الخيرات و حب الكرامات , و هو لا يزال مع الانسان من كل طريق الا من باب الاخلاص , فكن مخلصا و لو كنت في الاخلاص ما ترى نفسك في مقام الاخلاص , انتهى و الله أعلم , و هو عجيب لمن تأمله و عمل به . العاشر : أن يختار من الذكر لفظة لا اله الا الله , مع التعظيم بقوة تامة جهرا , و تصعيد لا اله من فوق السرة من النفس التي بين الجنبين , و ايصال الا الله بالقلب اللحمي الكائن بين عظمتي الصدر و المعدة , مئلا رأسه الى الجانب الأيسر مع حضور القلب المعنوي فيه . قيل و يستحب للداكر أن يحصر النفس على القلب و يجعل هاء الاالله دائرة يطبقها على دائرة القلب , و يكون جانب الاثبات أكثر , قاله الحراني , كدا في الخلاصة و الجوهر الخاص و تحفة السالكين و غيرهم . قوله "العاشر " , أي الأدب العاشر من أدبات الذكر , اختيار لا اله الا الله على غيرها من سائر الأذكار لأفضليتها على غيرها , بقوله عليه السلام : " أفضل ما قلته أنا " ...الخ , كما تقدم , و لاتفاقهم أن لا أنفع للمريد منها , و قد اجتمع فيها ما افترق في غيرها . و للناس مذاهب في اختيار الذكر , و لهذا قال تاج الدين ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في مفتاح الفلاح : " فمنهم من اختار لا اله الا الله محمد رسول الله في الابتداء و الانتهاء , و منهم من اختار لا اله الا الله في البتداء و في الانتهاء الاقتصار على الله , و هم الأكثرون , و منهم من اختار سبحان الله و بحمده , و منهم من اختار الله الله , و منهم من اختار هو هو , و احتج من قال بالأول بأن اليمان لا يصح ولا يقبل حتى تكون الشهادة بالرسالة متصلة بالشهادة بالوحدانية . قالوا فان قلت انما ذلك عند الدخول في الايمان , فاذا استقر ايمانه و ثبت , فيفرق بين الذكرين . فالواجب اذا لم يجز له التفريق في البداية , فأولى أن لا يجوز له في النهاية . ألا ترى أن الأذان الذي هو شعار الاسلام لا يصح الا بالتصال الذكر في جميعه على الدوام , فكما أن الأذان لا ينتقل عن حالته التي شرع عليها من الاتصال بين الذكرين , فكذلك لا ينتقل المؤمن الى الحالة التي لا يقبل الايمان فيها الا بعد اتيانه بالاصل , فلا سبيل الى التفريق بين الذكرين الى تمام كلامه , انتهى . قلت و لعل هذا فيمن لا يخيل صورة النبي صلى الله عليه وسلم المقيدة لذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم المستلزمة لثبوت رسالتهه عند قول الذاكر لا اله الا الله , و لهذا اشترط حضور خيال النبيء مع خيال شيخه من أفرد لا اله الا الله عن محمد رسول الله لحصول ما ذكر , و تحصيل الحاصل لا يخفى , و لجواب سيدي يوسف العجمي كما تقدم و لحديث " أمرت لأقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله " , كما تقدم . و كان الأستاذ رحمه الله تعالى و نفعنا به يقول : " يشفع بمحمد رسول الله صلى الله عليه و سلم في الانتهاء لا في الابتداء , و انما يقتصر المبتدء على لا اله الا الله فقط مع تخيل خيال شيخه والنبيء صلى الله عليه و سلم , تخفيفا على المبتدء , و ان محمد رسول الله في جوف لا اله الا الله , و يؤكد على حضور خياله صلى الله عليه و سلم للجميع , أي المبتدء و المنتهي . و يقول , نفعنا الله به , آمين , " لو غاب عني النبيء طرفة عين لم أعدد نفسي من المسلمين " , الخ , و سنزيد بيانا فيما يأتي ان شاء الله تعالى عند المناسبة . فتعين أن تخيل خيال صورته صلى الله عليه و سلم لذاكر لا اله الا الله , يقوم مقام الاقرار برسالته و هو معنى قولنا " محمد رسول الله " صلى الله عليه وسلم لاتفاق أهل الحق على أن الخيال أصل العالم كله , بل كل العوالم بأسرها . قال سيدي عبد الكريم الجيلي , في الانسان الكامل بعد كلام : " اعلم وفقك الله تعالى أن الخيال أصل الوجود و الذات الذي فيه كمال المعبود " ... الى آخر كلامه , من أراد تمامه فلينظره فيه , و الله أعلم . الحادي عشر : احظار معنى الذكر بقلبه مع كل مرة . فبظهور البشرية و الوسواس يقول بلسانه لا اله الا الله , و بقلبه لا معبود الا الله , و بخمودها و صفاء القلب و طلب شيء من المعارف و الشوق و الذوق و غير ذلك , يقول بلسانه لا اله الا الله و بقلبه لا مطلوب الا الله . و بفناء الخواطر كلها يقول بلسانه لا اله الا الله و بقلبه لا موجود الا الله لمشاهدته أنهه به ينطق , كدا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما . قلت , لأن بمراعاة الآداب المذكورة يرجع عن العادات المظلمة للقلب , و يتنور قلبه بأنوارها . فبذلك النور يصح أن يقول لا مطلوب الا الله , فهو ترق لا نزول كما قيلل أنه نزول عن ترق . قال الساحلي : " و منفعة الذكر أبدا في تتبع معناه بالفكر ليقتبس الذاكر من ذكره أنوار المعرفة , و يحصل على المراد , و لا خير في ذكر مع قلب غافل ساهه , و لا مع تضييع شيء من رسوم الشرع , انتهى . تنبيه : قال في مفتاح الفلاح : " قال بعضهم , لا يصح تردد الذكر المرة بعد المرة الا بمعنى غير المعنى الأول . قال , و أدنى درجة الذكر أنه كل ما قال لا اله الا الله , لا يكون في قلبه شيء غير الله الا و نفاه من قلبه , و متى التفت اليه في ذكره فقد أنزله منزلة الا الله من نفسه . قال الله تعالى : " أرأيت من اتخذ الاهه هواهه " . و قال تعالى : " لا تجعل مع الله الها آخر " . و قال تعلى : " ألم أعهد اليكم يا بني آدم " ... , و في الحديث عن النبيء صلى الله عليه و سلم أنه قال : " تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم " , و ان كان الينار و الدرهم لا يعبدان بركوع و لاسجود , و انما ذلك بالتفات القلب اليهما , فلا تصح منه لا اله الا الله , الا بنفي نفسه و قلبه ما سوى الله تعالى , و من ابتلي قلبه بصور المحسوسات , لو قال ألف مرة لا اله الا الله , قل ما يشعر قلبه بمعناه . و اذا ارتفع القلب عن غير الله تعالى , و لو قال مرة واحدة الله , يجد من اللذة ما لا يستطيع اللسان وصفه . قال الشيخ عبد الرحيم القناوي : " قلت مرة لا اله الا الله ثم لم تعد الي , و كان في تيه بني اسرائيل عبد أسود كلما قال لا اله الا الله ابيض من رأسه الى قدمه " . وتحقيق العبد بلا اله الا الله حالة من أحوال القلب لا يعبر عنها باللسان , و لا يقوم بها الجنان . و لا اله الا الله و ان كانت خالصة من التوجهات فهي مفتاح حقائق القلوب و ترقي السالكين الى عوالم الغيوب و من الناس من اختار موالاة الذكر , بحيث تكون الكلمتان كالكلمة الواحدة لا يقع بينهما تخلل خارجي و لا ذهني كي لا يأخذ الشيطان نصيبه , فانه في مثل هذا الموضع لبالمرصاد , لعلمه بضعف السالك على سلوك هذه الأودية لبعده عن عادته , لا سيما ان كان قريب عهد بالسلوك . و قالوا هذا أسرع فتحا للقلب وتقريبا من الرب . و قال بعضهم تطويل المدمن لا اله الا الله مستحب مندوب اليه , لأن الذاكر في زمن المد يستحضر في ذهنه جميع الأضداد و الأنداد , ثم ينفيها و يعقب ذلك بقولهه الا الله , فهو أقرب الى الاخلاص لأنه يكون الاقرار بالألوهية و هو و ان نفى بلا اله عينه فقد أثبت بالا كونه . و منهم من قال , ترك المد أولى لأنه ربما مات في زمن التلفظ بلا اله قبل أ، يصل الى الا الله . و منهم من قال ان قصد الانتقال من الكفر الى الايمان , فترك المد أولى ليسرع بالانتقال الى الايمان و ان كان مؤمنا كما تقدم , و سيأتي مزيد بيان ان شاء الله تعالى في محله و الله أعلم . الثاني عشر : نفي كل موجود من القلب سوى الله تعالى بلا اله الا الله , ليتمكن تأثير الا الله في القلب و يسري الى الأعضاء , لما قيل ينبغي للرجل اذا قال الله أن يهتز من فوق رأسه الى اصبع قدمه , و هذه الحالة يستدل بها على أنه سالك , فيرجى له التقدم الى أعلى منها ان شاء الله تعالى , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما , و زاد في تحفة السالكين , فان الحق تعالى غيور لا يحب أن يرى في قلب الذاكر له غيره , و لولا أن الشيخ له مدخل عظيم في تأديبه ما ساغ أن يخيل شيخه بين عينيه , و المراد من النفي المذكور ايصال تأثير الا الله الى القلب ليسري ذلك المعنى في سائر الجسد و أنشد :


أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا


انتهى باختصار . ثم قال بعد كلام , و اليحذر الذاكر من اللحن في لا اله الا الله , لأنها من القرآن . فيمد على اللام بقدر الحاجة و يحقق الهمزة المكسورة بعدها , و لا يمد عليها أصلا و يفتح الهاء من اله فتحة خفيفة و لا يفصل بين الهاء و بين الا الله . و اياك أن تتهاون في تحقيق همزة اله , فانك ان لم تحققها قلبت ياء , و كذا همزة الا و تسكن آخر لفظة الجلالة , و سيأتي مزيد تحقيق في كلام المص في النظم ان شاء الله تعالى . قال سيدي يوسف العجمي رحمه الله تعالى : " و ما ذكروه من هذه الآداب للذكر محله في الذاكر الصاحي المختار , و أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأسرار . فقد يجري على لسانه الله الله , أو هوهو , أو لا لا , أو أه أه , أو عا عا , أو ه ه , أو صوت من غير حرف أو اختباط أو انصراع , أو بكاء و نحو ذلك . فأدبه عند ذلك التسليم للوارد يتصرف فيه كيف يشاء . فاذا انقضى الوارد , فأدبه السكوت من غير تفعل مع السكون ما استطاع متلقيا للوارد . و قد تتفق هذه الأنواع للصادق في مجلس واحد . و هذه الآداب تلزم الذاكر بلسانه , أما
الذاكر بقلبه فلا يلزمه ذلك . تنبيهات : الأول : هل الذكر منفردا أنفع أو جماعة . الجواب , الانفراد أنفع لأصحاب الخلوة و الجماععة أنفع لمن لا خلوة له . الثاني : هل الذكر جهرا أنفع أو سرا . الجواب , الجهر أنفع لمن غلبت عليه القسوة من أهل البداية , و السر أنفع لمن غلبت عليه الجمعية من أهل السلوك . الثالث : هل افراد لا اله الا الله أفضل أو بزيادة محمد رسول اللله صلى الله عليه وسلم . الجواب , افراد لا اله الا الله أفضل للسالكين حتى تحصل لهم الجمعية مع الله تعالى بقلوبهم , فاذا حصلت فذكر محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم معها أفضل . و بيان ذلك أن محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم اقرار يكفي في العمر مرة واحدة , و المقصود من تكرار التوحيد كثرة الجلاء للقلب , قاله ابن المنير في تحفة السالكين , و قد تقدم عن سيدي يوسف العجمي , انتهى و الله أعلم . و أما الثلاثة آداب التي بعد الفراغ من الذكر : الأول , اذا سكت يسكن و يخشع و يحضر مع قلبه مترقبا لوارد الذكر , فلعله يرد عليه وارد فيعمر وجوده في لحظة ما لا تعمره الرياضة و المجاهدة في ثلاثين سنة , قاله الشيخ أبو يعقوب يوسف العجمي , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص , و زاد في تحفة السالكين , و ذلك أنه اذا كان الوارد وارد زهد , فيجب عليه التمهل فيه حتى يتمكن فيه الزهد , و يصير يتنغص اذا فتح عليه بشيء من الدنيا , عكس ما كان عليه أولا . أو وارد تحمل أذى , فيجب عليه التمهل حتى يتمكن و يتحكم و يصير اذا قام عليه الوجود كله بالأذى لا تتحرك منه شعرة , كما لا يتحرك جبل من نفحة ناموسةة . و هكذا بخلاف ما اذا لم يترقب حصول شيء من ذلكك , فانه لا يحصل له بذلك المقام الذي أتى به الوارد . قال تعالى : " انما الصدقات للفقراء و المساكين " .. , فاذا لم يكن عند الذاكر اشتياق و افتقار و طلب شيء لا يعطاه . قال ابن عطاء الله في مفتاح الفلاح : " و آداب الذكر اللاحقة , اذا سكت باختياره يحضر مع قلبه متلقيا لوارد الذكر , و هي الغيبة الحاصلة عقب الذكر , و تسمى النومة أيضا , فاستفيد منه أنها تسمى بثلاثة أسماء , السكتة و الغيبة و النومة . فكما أن الله تعالى أجرىالعادة بارسال الرياح نشرا بين يدي رحمته المطرية , أجرى العادة بارسال رياح الذكر بين رحمته القلبية , الخ . فائدة : قال الغزالي : " و لهذه السكتة ثلاثة آداب : الأول , أن يستحصر العبد أن الله تعالى مطلع عليه و هو بين يديه . الثاني , أن يجمع حواسه بحيث لم يتحرك منه شعرة واحدة , كحال الهرة عند اصطياد الفأرة . الثالث , أن ينفي الخواطر كلها و يجري معنى الله الله على قلبه , و هذه الآداب لا تتم المراقبة للذاكر الا بها . الثاني من الثلاثة التي بعد الذكر , هو أن يزم نفسه مرارا , لأنه أسرع لتنوير البصيرة و كشف الحجب و قطع خواطر النفس و الشيطان , لأنه اذا زم نفسه و عطل حواسه صار يشبه الميت و الشيطان لا يقصد الميت , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص و غيرهما , و زاد في تحفة السالكين , أن يزم نفسه مرارا من ثلاثة أنفاس الى خمسة أو سبعة أو الى أكثر , بحسب قوة عزمه , و هذا كالمجمع عليه , بل على وجوبه , حتى يدور الوارد في جميع عوالمه فتتنور بصيرته , و تنقطع عنه خواطر النفس و الشيطان و تنكشف له الحجب , انتهى و الله أعلم. الأدب الثالث , من الثلاثة التي بعد الفراغ , منع شرب الماء لأن الذكر يورث حرقة و شوقا و هيجانا الى المذكور و هو المطلوب من الذكر , و شرب الماء بعد الذكر يطفأ ذلك , و قد نهي عنه من جهة الطب أيضا , فان فيه هز الأعضاء و اتعابها , فربما يورث الاستسقاء , فليحرص الذاكر على هذه الآداب الثلاثة , فان نتيجة الذكر انما تظهر بها و الله أعلم , كذا في الخلاصة و الجوهر الخاص . قلت هذه عشرون أدبا , و سماها الساحلي شروط , و زاد في السر المصون و بلغها الى خمسة و عشرين , و زاد عليها في الأسلوب الغريب في التعلق بالحبيب الى اثنين و ثلاثين . و قال أبو عبد الله البجاءي صاحب الكتابين المذكورين , و لولا خشية الاطالة لبلغتها الأربعين , و كلها ملتقطة من متفرق كلامهم , و أنا أذكر منها طرفا على سبيل الاختصار تتميما للفائدة ان شاء الله تعالى . فأقول مما زاد على العشرين الأول أن يكونوا كيف يعرف بعضهم بعضا في الصدق لأن الصاحب هو الذي يزيدك نصرا و أنت لا تشعر , و انما يصح ذلك ممن يريد مثل ما تريد , و الا فهو ضد لك فهو عليك لا لك . و اذا حضر المجلس غير صادق تنكر الوارد , بل لا يرد و ينكر المجلس منه . و من المجربات أنه اذا حضر معترض عليهم و لو بقلبه و لم يعلمه أحد من المريدين , فان قلوبهم لا تجتمع عليهم و هذا مجرب صحيح مختبر , انتهى باختصار . الثاني , غلق الباب , فان ذلك من تمام جمع الهمة , و عادة الفقراء قديما أذا ارادوا الذكر , غلقوا الباب و اذا حضر السماط فتحوه . قلت , و استنادهم في ذلك بحديث شداد بن أوس المتقدم ذكره , و هو قوله صلى الله عليه و سلم " هل فيكم غريب , قالوا لا " , فأمر بغلق الباب .... الحديث , و الله أعلم . الثالث , لا يخرج أحد منهم في حال الذكر و لا يدخل لوجهين : الأول , أن ذلك مما يشوش عليهم في تلقي الوارد , بل حتى الذكر و الوارد صيد عزيز . و الثاني , قالوا يخاف على فاعل ذلك أن يختطفه الحاضرون من الملائكة و الجن , لأنه يؤذيهم ذلك كما يأذي الذاكرين من الانس . قال البجاءي سمعت شيخنا أبا عثمان يقول : " من شغل مشغولا به مكر به " , يعني به الصفراوي صاحب كدية عاتي بقسنطينة الغرب . الرابع , اقطاع مادة التشويش جملة و لو من قعقعة ثوب لبسه أو يلبسه , أو شرب ماء , أو فتح أحد عينيه و ينظر , أو التزحزح من مكان الى مكان و الحركة البينة و لو في مجلسه , كالحركة باليد و العبث باللحية و التنحنح و السعال و التنخم , فان ذلك مشوش , فيجب تركه بحسب الامكان .
الخامس , أن يستمع بعضهم من بعض في الذكر , فان الشيخ فبغناته ينطقون , و ان لم يكنفبغنة أحدهم , بل أحسنهم صوتا , و يحتفظون على ذلك جدا حتى يكون صوتهم كأنه من لهاة واحدة ينطقون , فان ذلك له أثر في القلوب .
قال ابن عبد السلام : " تزيين الصوت من السنة " . قلت و لعل استناده ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث البرا , قال : " قال صلى الله عليه و سلم , زينوا القرآن بأصواتكم فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا " , انتهى . و لا اله الا الله قرآن , و الله أعلم . السادس , أن يكونوا على قلب واحد في الصفاء فيما بينهم . قلت لا شك فيه وقد جرب , و باختلاف القلوب يحدث اختلاف الأصوات , و باختلافها ينعدم تساوي الكيفية , فيرتفع الوارد و يثقل مجلس الذكر والله أعلم . قال عليه الصلاة و السلام : " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " , رواه البخاري . السابع , أن يعتقد كل واحد منهم أن كل واحد من أصحابه أحسن منه , فاذا توقف عليه الوارد , فربما توسل بمن في الجمع أو بجميعهم بقلبه , فيفتح عليه بوارد حسن . قلت , و قد أجمعوا أن من اعتقد أنه خير من جليسه , فقد لعنه الوجود كله , و من اعتقد أنه مثل جليسه , فقد وقف مدده , و من اعتقد أنه أدنى من جليسه أمده الوجود كله , انتهى و الله أعلم . الثامن , أن لا ينفصلوا الا على الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم . فقد ورد " ما اجتمع قوم في مجلس و لم يصلوا على النبيء صلى الله عليه و سلم , الا تفرقوا على أنتن من الجيفة " , انتهى و الله أعلم .
التاسع , أن يكون لباسه و قوته من الحلال . ففي الحلال صفاء القلب و نور عظيم , و ان تعذر فالقوت . قال عليه السلام : " لو كانت الدنيا دما عبيطا لكان قوت المؤمن منها حلالا " . و قال تعالى : " و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا " , و القوت ليس باسراف . قال سهل بن عبد الله في قوله تعالى " كلوا من طيبات ما رزقناكم
و لا تطغوا فيه " ...الآية . أي كلوا منها القوام و ما سد الرمق فانه الطيب من الرزق , و لا تطغوا فيه , أي لا تشبعوا فتكسلوا عن ذكر الله . العاشر , أن لا يكون الذاكر شبعان لأنه اذا شبع سكر عن ذكر الله تعالى . ألم تسمع قول سهل ابن عبد الله في تفسير الآية آنفا و منه و من أمثاله أخذنا هذا الشرط , و قالوا لا تأكلوا كثيرا فتشربوا كثيرا فترقدوا كثيرا فتخسروا كثيرا . و قالوا البطنة تذهب الفطنة . قال الساحلي رحمه الله تعالى : " و من الشروط خلو البطن من الطعام عند التوجه للذكر , لأن البطنة تذهب الفطنة , انتهى و الله أعلم . الحادي عشر التماس خلوة لايقاع الذكر . قال الساحلي : " فان الخلوات مفتاح تدبير المعاني , انتهى . قال البجاءي في الأسلوب الغريب : " سمعت شيخنا من أهل القرن الثامن , و هو شيخ الفقراء ببلدنا بجاية يقول , " نحن صيادة و شبكتنا الذكر " , يشير الى أن الذكر اذا لم يكن في خلوة , يحضره العوام و كثير من يجذبه الذكر فيرجع فقيرا , و هذا صحيح ان قصد هذا الوجه و لم يقصد الوارد , و الله أعلم . المراد به لا يعدل عن المكان الخالي لايقاعع الذكر عند امكانه الا اذا أراد الصيادة المذكورة , و هو عجيب في تصحيح النية , فجزاهم الله عنا خيرا كثيرا . قال ابن سبعين : " و مجالس الذكر رحمة للخلق , و هو ميدان منه يخرج كل شائق . قال عليه الصلاة و السلام : " اذا مررتم برياض الجنة فارتعوا " , " قالوا يا رسول الله و ما رياض الجنة " , قال " حلق الذكر " , أخرجه البيهقي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه . الثاني عشر , اتخاذ السبحة . قال الساحلي : " يحصر بها عدد لزمه ليسلم بذلك من شغب حصور الآحاد و العشرات و المئات و الآلاف , و لأن ذلك من عادة السلف الصالح و أهل الأوراد , و لأن هذا الشرط لمجرد الذكر من حيث هو ذكر لا لذكر لا اله الا الله " . قلت , و قد قال الشيخ السنوسي في نصرة الفقير في الرد على أبي الحسن الصغير , " و أما السبحة فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم أقر أصحابه على التسبيح في نواء التمر و كانوا يفعلون ذلك , و كان أبو هريرة رضي الله عنه , ربط في خيط خمسمائة عقدة و سبح فيها بين يديه صلى الله عليه و سلم , و أقره على ذلك , و استعملها العلماء العاملون و لم أر فيها تعارضا لأهل العلم و الحمد لله رب العالمين" , انتهى كلامه و هو عجيب لمن أنكرها كأبي الحسن المذكور, سامحه الله تعالى , و الله أعلم . الثالث عشر , أن يكون بني على تقوى من الله تعالى و رضوان , فافهم . قال تعالى : " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه " . قال ابن سبعين : " فان وجدت المجلس كما ذكر و الا جعلت مجلسك حيث ما كنت , و كن في الدنيا كأنك غريب " . قلت, قال سيدي أبو الحسن الشاذلي , نفعنا الله به , آمين : " أوصاني خليلي فقال لا تنقل قدميك الا حيث ترجو ثواب الله , و لا تجلس الا حيث تأمن غالباا من معصية الله و لا تصطفي لنفسك الا من تزداد به يقينا و قليل ما هم " . و قد حذر سيدي البكري نفعنا الله به آمين في الوصية الجلية للسالكين طريق السادة الخلوتية عن مجالس النسوان و المرد الشبان الذي تميل اليهم النفوس و معاشرتهم , و أوصى و أكد بالفرار من هاؤلاء و مجالسهم , أي مجالس الذكر الذين يجتمعون فيها مع من قل فيه التقوى , و قال بعد كلام , و كان الواسطي رضي الله تعالى عنه يقول : " اذا أراد الله تعالى هوان عبد ألقاه الى هاؤلاء الأنتان و الجيف , يريد به الشبان المرد الذين تميل اليهم النفس . فاليحذر المريد الصادق عن مجالسة المرد اللهم الا في حلقة الذكر أو الدرس بحضرة الشيخ مع غض البصر عنهم ما أمكن , و كذلك النساء و مواخاتهن و الاجتماع بهن , و أما حضور هلؤلاء للوعظ و التعليم و الذكر مع ذوي التقوى جائز , انتهى باختصار و الله أعلم . الرابع عشر , أن يكون الحاضرون محتضرين متمسكين تنطق خواطرهم بالعبودية موافقة لألسنتهم , كما تنطق بأوصاف الربوبية . قال ابن سبعين : " فانه ما جلس أحد مع قوم الا و أخذ من حالهم " . و تقدم نحوه للغزالي , أنه تسري حالة المجالس في مجالسهم و هو لا يشعر . و قد ورد أن مجلس الذكر ان كان فيه واحد مغفور له , غفر للجميع من أجله , انتهى و الله أعلم الخامس عشر , أن يكونوا مقهورين لأحكام الشيخ , فلا يتحرك أحد و لا يخرج و لا يدخل الا باذن الشيخ , و هذا هو السر في جميع ما تقدم و به يتم المجلس و الا كان جميع ما تقدم لا يتم و لا يكون مهابة للمجلس أصلا . قلت , و هذه خمسة عشر أدبا الى العشرين المتقدم ذكرها , فهي خمسة و ثلاثون أدبا . قال في الأسلوب الغريب في التعلق بالحبيب : " و ما وقفت قط على من بلغ آداب الدكر هذا العدد الذي فتح الله به علينا " , انتهى . قلت , غاية ما ذكر أصحاب السير و الأذكار عشرون أدبا , و بلغها في عنوان السر المصون الى خمسة و عشرين , و في الأسلوب الغريب الى اثنين و ثلاثين , و هذه من خصائص هذا الكتاب , و الله يلهمنا الى سبيل الصواب بمنه . قال في الأسلوب الغريب , " و في ملازمة هذه الآداب عمل بالأحاديث الأربعة " , يعني التي عليها مدار مذهب الصوفية . الأول , قوله صلى الله عليه وسلم : " انما الأعمال بالنيات و انما لكل امرىء ما نوى " . الحديث الثاني : " من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه " . الثالث : " أن تعبد الله كأنك تراه ..ز" الخ . الرابع : " ان لم تبكوا فتباكوا ..." الخ . و لا يستصعب أحد العمل بالأحاديث الأربعة , فان الله أقدر العبد على ذلك , و نبهنا صلى الله عليه و سلم بقوله : " موتوا قبل أن تموتوا " . قال بعض العارفين , يعني عن هذه الحياة الفانية و الأوصاف البشرية و اللذات الجثمانية و الارادات النفسانية , و تحيى بالفناء الكلي و تبقى بالبقاء السرمدي . و لما رأى ضعفنا , عليه السلام , قال : " اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " . فاذا يحاكي الانسان الميت ما استطاع , و ظاهر صفة الميت أنه لا يرى و لا يتكلم و لا يتحرك , و لا يعجز أحد أن يغمض عينيه و يسكن قدر ثلاثة أنفاس , أو قدر استطاعته و قلبه في ذلك مع الله تعالى , فاذا فعل ذلك فقد مات , وأتى باستطاعته في ظاهره , فاذا فعل ذلك عند جلوسه للذكر قبل النطق به , فقد مات . فاذا أضاف الى موته و قطع صوته الله الله بالقلب دون اللسان , فقد شارك الخاص بالقدم . و ان جعل ذلك مرجعه في كل ما وجد فراغه , فقد صار من السالكين الخاصين . فعلى قدر أنسه بالله الله و استيحاشه من الخلق , يكون من خاص الخاص . و على قدر ثباته فيه يكون من الفائزين الذين لا خوف عليهم و لا يحزنون . و مع ذلك فلا يجوز أن يأمن مكر الله تعالى طرفة عين , و هذه الآداب انما تصعب مع الابتداء , أما مع المواضبة في النهاية فتسهل ان شاء الله تعالى , و هي لازمة ما دام الذاكر ضابطا نفسه , انتهى . و أما ان ورد الوارد , فالحكم أن يسلم نفسه لوارده يصنع فيه ما يشاء , فانهه ان سلبه الاختيار لا حرج عليه ما دام مسلوب الاختيار يستعمله كيف شاء . فانه على أنواع مختلفة كلها محمودة و صاحبها مشكور عليها , فانه أسرار و أذكار كلما يجري على لسانه كما تقدم و الله أعلم . انتهى منه باختصار .