عَلَيْكَ بالكِتَابِ!
عبير قاسمي
الكتاب بما هو مؤسسة تنشئة اجتماعيّة
مُنذُ الأزل، والإنسانُ يكتُب – وأعني بالأزل خمسة آلافِ سنةٍ قبلَ الميلاَد، تاريخَ اكتشاف الكتابة في بلادِ الرّافدين – لتصبح الكتابةُ نافذة الذّات إلى الوجود وليبدأ من خلالها توضيب أركانِ أفكاره، إنّها مساحةِ يُطّل منها على الكونِ محاولًا فهمه وتفسيره. ثمّ كانت القراءة، بوّابة عُظمى يدخل منها الوجود إلى الذات لإيقاظها من ذهولها.
قديمًا، كانت التنشئةُ الاجتماعيّةُ بما هي عمليّة إكساب الفرد معايير سلوكِ مجتمعهِ وأبعاده الاجتماعيّة والثقافيّة، عمليّة سماعيّة، إلى أنْ جاءت الكتابةُ لتدوينِ المعارفِ التراكميّة لكلّ حضارة أو مجتمعٍ، فأضحت التنشئة الاجتماعية عمليّة تكامليّة دينامكيّة بين السماعِ والقراءةِ، لتتضافر مؤسساتُها في صقلِ شخصيّة الفردِ وتوجيهه في كاملِ مسارِه الحياتّي.
ثقافةُ القصّة
الأُسرة هي حجر الزّاوية في هذه العمليّة المعقدّة وهي إطارٌ مرجعيّ ثابتٌ كذلك، تعملُ بالتوازي مع بقيّة المؤسسات، ومنها يبدأ الفرد/ الطفلُ في اكتسابِ ثقافته السمعيّة إلى أن يتعلم القراءة والكتابة، ويدخُلَ عالمَ القصّةِ، التّي ربمّا اكتشفها آنفًا في حكاياتِ الوالدين أو «محنةِ التلفاز»، لكنّ الاستيعابَ الفعليّ لدُنيا القصة يبداُ من قِراءتها، فأثرُ القصة على الطفل غير القارئ مختلف تمامًا. إنّها دون شكّ أكثرُ جنس أدبيّ يسهم في تكوين وعي الطفل وتوجيهه بما تمتلكهُ من قوّة تأثير ومُتعة إذ تتضمن أغراضًا تربوية وفنية وأخلاقية. مكانة مميّزة تحتلها – أو كانت تحتلها – القصة في تربية الناشئة، على ضوء تراجع ثقافةِ القصّ والمطالعة. فالطفلُ المقبل على القراءة ينطلقُ من واقعه إلى عالم القصة الأكثر غنى واتساعًا ليبدأ في التعرف على مفاهيم الخير والشرّ والصداقة والحبّ والتعاون والشجاعة.
ثمّ في مرحلةٍ متقدّمة من طفولة الفرد، يُصبحُ للكتابِ دور أساسيّ آخر، وهو تقويةُ الطفل لغويًّا وتوطيد علاقته بعدة لُغات إضافة إلى لغته الأمّ، فما من طريقة أنجع لتعلم لغة غير القراءة. القراءةُ تجعلُ الطّفل قادرًا على التعبير والحوارِ والإقناع بلغة طَلِقة صحيحة.
وإن كانتْ الأسرة نواةَ المجتمعِ الأولى، فهذَا ما يؤكّد دورها الحيويّ، في إعادة إحياء ثقافة الكتاب وتحفيز الطفل على القراءةِ ومجالسة الكُتُب وتمرير هذه العادةِ من جيل إلى جيل.
ديمومةُ الكتاب
ولا يتوقّفُ دور الكتابِ كمؤسسة تنشئة اجتماعيّة في مرحلة الصّبا، بل إنّ الكتاب يُساير الفرد في كافّة مراحل حياته ويؤثر فيه بنفسِ القدر. القراءةُ وسيلة معرفة، والمعرفة غير مقترنة بأيّ من المتغيّرات كالجنس والفئة الاجتماعية وخاصة: السنّ! القراءةُ تهبك مهارات الاحتجاج والجدل والاستدلال وتدريب العقل والذاكرة، ومهارات التعبير عن الأفكار لغويًا وفكريًا.
القراءةُ كذلكَ، تُخرجك منتصرًا على التعصبّ إذا ما لَم تَكُن منغلقًا على موضوعةٍ واحدة أو تيّار واحد فالقارئ المُعتدلُ/الذكيّ تتراكم لديه العديد من الرؤى الفكرية المختلفة، فيكتسب قدرة على الانفتاح والتسامح والموازنة عكس من يحبس نفسه في مسار يتيم ليتهم كل من يختلف عنه بالتخلف.
الكتاب كونٌ رحبٌ من المفردات يُثري الملكة اللغويّة، ومحفّز للخيالِ عكس الأفلام التي تمنحُ صورة جاهزة، الكتابُ يستفزّ مخيلتك لاختراع صور حيّة عمّا تقرأ، صور أكثر إبهارًا من السينما، التي لا يمكنها على الإطلاقِ مُجاراة العقل البشري.
الكتابُ موجه أخلاقيّ بامتياز، يسعى لاحتواء الشخصية وصقلها وتعريفها على الشرور التي يجبُ تجنّبها عبر إحياء العبر وضرب الأمثلة وروايةِ القصص، وعبر جِسر الفلسفة وأثرها العميق على شخصيّة الفرد. تُسهم القراءة كذلك في تنمية الميول والاهتمامات واستثارة قُدرات القارئ الإبداعية.
الهُوّة المفزعة
واقعنا المتغيّر رمَى بالكتاب في حربٍ غير عادلة، معركةُ الجنديّ الواحد ضدّ جيشٍ من الوسائط الأخرى كالإنترنت ووسائل الإعلامِ التي أصبحت الغالبة في تنشئة مُجتمعِ اليوم، فأصبحت المتحكّمات الرئيسيّة في المشهد الاجتماعيّ أمام تراجع دور الكِتاب في النسق الاجتماعيّ والتربية المُنتظمة القصديّة، خاصّة بالنسبة للمجتمع العربّي الذي هجر القراءة.
أزمة القراءة في المجتمع العربّي لا تعود فقط لغلبةِ الصورة والإنترنت على المقروء، بل تعود كذلك إلى العطالة الفكرية التي يشهدها الوطن العربي، كذلك ارتفاع نسب الأمية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وسياسات لا تشجّع المُبدعين، ومناهج دراسية وأسرية لا تولي أهمية للمطالعة.
فقد أشار تقرير التنمية البشرية عام 2011، الصادر عن «مؤسسة الفكر العربي» إلى أن العربي يقرأ بمعدل ست دقائق سنويًا، بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنويًا.
أمّا متوسط معدل القراءة في العالم العربي فلا يتعدى ربع صفحة للفرد سنويًا، وذلك بحسب نتائج خلصت إليها لجنة تتابع شؤون النشر، تابعة للمجلس الأعلى للثقافة في مصر. ويعتبر هذا المعدل منخفضًا ومتراجعًا عن السنوات الماضية، ففي عام 2003، وبحسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن اليونسكو، كان كل 80 عربيًا يقرأ كتابًا واحدًا، بينما كان المواطن الأوروبي يقرأ 35 كتابًا في السنة، والمواطن الإسرائيلي يقرأ 40 كتابًا.
وأما عن الجنسيات العربية ومعدل قراءة الكتب فأشارت دراسة شركة سينوفات لأبحاث السوق، إلى أن اللبنانيين يقرؤون 588 دقيقة في الشهر، وفي مصر 540 دقيقة، وفي المغرب 506 دقائق، وفي السعودية 378 دقيقة.
فجوةٌ هائلة تزدادُ اتساعًا في ظلّ غيابِ خطط استراتيجيّة تشجع على تبنّي ثقافة الكتاب، في مجتمعات طبعها سماعيّ بدرجة أولى، ثمّ مجتمعات تلفزيّة بدرجة ثانية.
المفضلات